
ضربة قلم
مما لا شك فيه أن العلاقات الدبلوماسية ليست سوى مرآة تعكس المصالح السياسية والاقتصادية للدول، وهي بذلك ليست ثابتة أو مقدسة، بل تتلون وفق الظروف والمتغيرات الدولية والإقليمية. المغرب، بسياساته المستقلة ورؤيته الاستراتيجية، وجد نفسه على مدار العقود الأخيرة في شبكة معقدة من العلاقات التي تتراوح بين التحالف والتوتر، بين التقارب والتباعد، وبين الشراكة والخصومة، وفقًا لما تمليه المعطيات الجيوسياسية.
إذا ما تحدثنا عن دائرة الدول “القليلة جدًا” التي تصطدم سياساتها مع المغرب، فسنجد أن القائمة تكاد تكون محصورة في ثلاث دول: الجزائر، تونس، وجنوب إفريقيا. ولكل من هذه الدول قصة مختلفة، لكن القاسم المشترك بينها هو تأثير العوامل السياسية الداخلية والخارجية التي قادت إلى مواقف غير ودية تجاه المغرب، رغم المصالح المشتركة التي كان يفترض أن تجمعها به.
الجزائر: التاريخ يعيد نفسه في نسخ أسوأ
لا جديد يذكر في العلاقات المغربية الجزائرية، فالتوتر بين البلدين ليس وليد اليوم، بل هو امتداد لعقود من المواقف العدائية المتكررة التي صنعتها الأنظمة الحاكمة في الجزائر أكثر مما فرضها الواقع الجغرافي أو الشعبي. المشكلة ليست في الشعب الجزائري، الذي يربطه بالمغاربة تاريخ مشترك وعلاقات أخوية راسخة، بل في النظام الجزائري الذي جعل من معاداة المغرب جزءًا من عقيدته السياسية.
منذ استقلال الجزائر، والنظام العسكري هناك يعيش في هوس مستمر بخلق عدو خارجي يشغل به الداخل عن أزماته المتكررة، والمغرب هو الخيار الأسهل دائمًا. دعم جبهة البوليساريو، الترويج لمغالطات دبلوماسية في المحافل الدولية، إغلاق الحدود لعقود، كلها سياسات تعكس العجز أكثر مما تعكس القوة. وفي المقابل، ظل المغرب ثابتًا على مواقفه، متجنبًا الانزلاق إلى المواجهات العبثية، مؤمنًا بأن المستقبل لا يبنى على الأحقاد السياسية، بل على التعاون والتنمية المشتركة.
تونس: لعبة المصالح القصيرة الأمد
لطالما كانت العلاقات المغربية التونسية نموذجًا للعلاقات المغاربية الناجحة، سواء من حيث التعاون الاقتصادي أو التبادل الثقافي أو حتى التشابه الاجتماعي بين البلدين. المغرب وتونس لطالما طبّقا مبدأ المعاملة بالمثل في ما يخص الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية، ما خلق مناخًا مستقرًا لرجال الأعمال والمستثمرين في كلا البلدين.
لكن فجأة، ومع تدهور الاقتصاد التونسي، جاء قيس سعيد ليبحث عن مخرج من أزمته المتراكمة، ولم يجد أفضل من “الجار النفطي” تبون ليقدم له بعض الحلول المغلفة بالدعم الاقتصادي المشروط. وهنا، ظهرت تونس في موقف لم تعتده من قبل، حيث أصبحت رهينة لإملاءات جزائرية لم تخدمها لا سياسيًا ولا اقتصاديًا، بل جعلتها تبتعد عن مسارها التقليدي كدولة متزنة دبلوماسيًا.
ومثل من يُغريه بريق الذهب، لم يدرك قيس سعيد أن الدعم الجزائري ليس مجانياً، وأن اليد التي تمتد اليوم لمساعدته قد تكون نفسها التي تُبعد تونس عن دوائر التأثير الإيجابي في المنطقة. المغرب، بطبيعة الحال، لم ينجر وراء هذا التحول، بل ظل يحافظ على موقف متوازن، لأنه يعرف جيدًا أن السياسة لا تُبنى على العواطف، بل على المصالح طويلة الأمد، والتي ستجعل تونس يومًا ما تعود إلى رشدها.
جنوب إفريقيا: خصومة بملامح أيديولوجية
أما جنوب إفريقيا، فإن موقفها العدائي تجاه المغرب مرتبط بتوجهاتها الأيديولوجية أكثر من كونه موقفًا مبنيًا على معطيات سياسية واقتصادية حقيقية. فمنذ حقبة مانديلا، تبنت جنوب إفريقيا سياسات داعمة لكل ما هو “تحرري” في ظاهرها، لكنها في جوهرها كانت انتقائية وانتقادية حين تعلق الأمر بقضية الصحراء المغربية.
تبنت بريتوريا نهجًا متحيزًا في دعم البوليساريو، متجاهلة الحقائق الجغرافية والتاريخية، متبنية خطابًا دبلوماسيًا مستوحى من أيديولوجيات قديمة لم تعد صالحة لعالم اليوم. لكن المغرب، بدلًا من الدخول في صراع كلامي لا طائل منه، اختار التركيز على تعزيز حضوره في القارة الإفريقية عبر الاقتصاد والتعاون المشترك، ما جعل تأثير جنوب إفريقيا محدودًا رغم كل محاولاتها لخلق تحالفات مضادة.
المغرب ومصر: سمن على عسل… إلا في كرة القدم!
على الضفة الأخرى، نجد العلاقة المغربية المصرية نموذجًا مختلفًا تمامًا. فالتعاون بين البلدين كان دائمًا قويًا في مجالات عدة، من السياسة إلى الاقتصاد إلى الثقافة. مصر، كدولة عربية ذات وزن، حافظت على علاقات طيبة مع المغرب، ولم تقع في فخ الصراعات الدبلوماسية العقيمة التي تورطت فيها بعض الدول الأخرى.
لكن كرة القدم كانت دائمًا الاستثناء الوحيد! فالمواجهات بين المنتخبين المغربي والمصري لطالما كانت مشحونة، ليس بسبب التنافس الرياضي فحسب، بل بسبب “الخبث الكروي” الذي ميز بعض اللقاءات بين الطرفين. أساليب التحايل داخل الملعب، التمثيل، الاستفزازات المتكررة، كلها جعلت كرة القدم في كثير من الأحيان سببًا في توتر الجماهير رغم متانة العلاقات السياسية.
لكن في النهاية، تبقى كرة القدم مجرد لعبة، لا تغير في الحقائق الدبلوماسية شيئًا، وإن كانت تترك بعض الجراح المؤقتة التي سرعان ما تندمل مع مرور الوقت.
خلاصة: المغرب وواقعية العلاقات الخارجية
في النهاية، يظل المغرب مثالًا للدولة التي تدير علاقاتها الخارجية بواقعية وهدوء، فلا ينجرف إلى الصراعات غير المجدية، ولا يسمح بأن يكون رهينة لمواقف الآخرين. فمن أراد التحالف البناء، وجد المغرب شريكًا موثوقًا، ومن اختار طريق المواجهة، وجد نفسه في عزلة سياسية متزايدة مع مرور الوقت.
لذلك، وبينما تتغير مواقف بعض الدول حسب مصالحها الآنية، يبقى المغرب ثابتًا على نهجه، مؤمنًا بأن العلاقات الحقيقية تُبنى على المصالح المشتركة، لا على الإملاءات العابرة، ولا على المواقف الارتجالية التي سرعان ما تفقد صلاحيتها.