الغاز لم يُخفِ الجريمة: واعترف رجل الأمن بقتل الممرضة فاطمة

ضربة قلم
كنا قد نبشنا في هذا الملف المؤلم منذ أسابيعه الأولى، حين بدأت أولى خيوط الحكاية تتسلل من جنبات الصدمة، وها نحن نعود إليه اليوم بعد الجلسة التي عقدت أمس بمحكمة الاستئناف ببني ملال، لنزيح بعض الستار عن مستجدات جديدة تعيد خلط الأوراق وتُعمّق الجرح المفتوح.
ففي تطور درامي لم يكن في الحسبان، كشفت جلسة الاستنطاق التفصيلي عن اعتراف صريح من طرف المشتبه فيه الرئيسي، وهو عنصر أمني، بأنه أقدم على قتل الممرضة فاطمة داخل بيتها بمدينة خنيفرة. الاعتراف لم يكن عاديًا، بل مثقلاً بتفاصيل تقشعر لها الأبدان: خنقٌ متعمد، ثم حيلة شيطانية لتمويه الحقيقة، عبر إدخال أنبوب غاز في فم الضحية وتوجيهه نحو جسدها، في محاولة لإقناع الجميع بأن الوفاة كانت نتيجة اختناق عرضي بسبب تسرب الغاز.
ما كان يلفّه الغموض قبل أسابيع، بدأ يتضح الآن كمخطط جنائي مدروس، حاول فيه الجاني أن يلبس فعلته لباس القدر، غير أن مسار التحقيق لم ينطل عليه الخداع. فبفضل التنسيق المحكم بين الشرطة القضائية والنيابة العامة، تم جمع معطيات رقمية دقيقة، وتحاليل علمية، وتشريح طبي مفصّل، كلها أشارت بوضوح إلى وجود عنف سابق للوفاة، ما أطاح بفرضية “الاختناق العرضي” وفتح باب الاشتباه على مصراعيه.
لقد تابعنا منذ البداية كيف هزت وفاة الممرضة فاطمة ضمير الرأي العام، لا لكونها ضحية فقط، بل لأنها كانت عنوانًا للالتزام المهني والإنساني في قطاع الصحة بخنيفرة، تحظى باحترام زملائها ومرضاها. وما زاد من وطأة المأساة، أن المتهم في هذه الجريمة المفجعة ليس غريبًا عن الدولة، بل أحد عناصرها الأمنية، ما زاد من منسوب الغضب وطرح أسئلة عميقة حول الثقة، والمحاسبة، وحجم الخراب الأخلاقي حين يتحول من يُفترض فيه أن يحمي الناس إلى قاتل.
يوم السادس من أبريل الماضي، حين عُثر على فاطمة جثة هامدة في بيتها، لم تكن هناك مؤشرات صريحة تدل على جريمة. ومرّت فرضية الغاز كما تمر الأخبار العادية، لولا الحس المهني لبعض المحققين، ولولا العيون المفتوحة للنيابة العامة، التي رفضت إغلاق الملف على عجل، فقررت إخضاع الجثة للتشريح، والعودة خطوة إلى الوراء لمساءلة المحيطين بالضحية. شهادة هنا، ومعلومة هناك، ثم تحليل رقمي يتقاطع مع أثر على جسد، كل ذلك كان كافياً لإعادة بناء سيناريو مختلف بالكامل عن رواية الغاز الساذجة.
اليوم، نحن أمام لحظة مفصلية، حيث الاعتراف بالجريمة يفتح الباب أمام محاكمة حقيقية لا مجرد جلسات شكلية. لكن القصة لم تنته بعد. ففي مدينة خنيفرة، حيث لا تزال الساكنة تمسح دموعها، هناك من يصرخ في الخفاء: لا نريد أن ننسى. لا نريد أن يُغلق هذا الملف كما أُغلقت قبله ملفات. نريد عدالة لا تفرق بين بدلة رسمية وسروال عادي، بين رجل أمن ومواطن أعزل.
في انتظار ما ستسفر عنه الجلسات القادمة، تبقى قضية فاطمة مرآة لما يمكن أن يحدث حين يتواطأ العنف مع النفوذ، وحين تحاول الجرائم أن ترتدي قناع الصدفة. فإما أن تنكشف الحقيقة كاملة، أو نُضاف إلى قائمة الشعوب التي تصالح نفسها كل مرة مع المأساة، ثم تعود للنوم.




