مجتمع

الغبار الأسود يعود… والمحمدية تدفع ثمن الكهرباء بصحتها!

ضربة قلم

لم يكن الغبار الأسود الذي يغزو أسطح المنازل في المحمدية حدثًا عابرًا أو ظاهرةً مناخية غريبة، بل هو وجهٌ خفي لتراكمات صناعية لم تُعالج بعدُ بالجدية اللازمة. فبعد فترة من الهدوء، عاد هذا الزائر الثقيل ليغطي الأحياء العليا للمدينة، قادمًا من المحطة الحرارية للمكتب الوطني للكهرباء، في مشهد مألوف للسكان، لكنه يثير القلق في كل مرة يتكرر فيها.

العودة المفاجئة لهذا التلوث الجوي ليست مجرد مسألة بيئية صرفة، بل تتداخل فيها الأبعاد التقنية، والمقاربات التدبيرية، والمواقف المجتمعية. من الناحية التقنية، يُعزى هذا النوع من الانبعاثات إلى عدة عوامل، أبرزها أن المحطة ما تزال تعتمد في جزء من إنتاجها على الفحم الحجري، وهو مصدر معروف لإطلاق جسيمات دقيقة وسخام كثيف، خصوصًا إذا كانت منظومة الفلاتر غير محدثة أو غير فعالة بالقدر المطلوب. وقد يكون سبب الانبعاثات المفاجئة إما عطلًا في أنظمة الترشيح، أو تشغيلًا مكثفًا للمولدات في فترات ذروة الطلب دون احترام المعايير البيئية.

هذا النوع من الإشكالات لا يظهر في المدن الصناعية الكبرى فقط، بل يطفو بقوة في مناطق مثل المحمدية، حيث تتجاور الأحياء السكنية مع وحدات إنتاج الطاقة، في غياب فعلي لحزام أمان بيئي أو مخطط حضري واضح المعالم يُراعي صحة المواطنين. وهنا، تتحول المسألة إلى معضلة تتجاوز اختصاص المهندسين والفنيين، لتطرق أبواب المسؤولين الترابيين والمؤسسات الرقابية.

التحرك المحدود لبعض الجمعيات البيئية والحقوقية في المدينة كان لافتًا، لكنه بقي، إلى حدود الساعة، كمبادرات معزولة، تفتقر إلى الزخم الشعبي والدعم المؤسساتي الذي قد يحوّل المطالب البيئية إلى أولوية على طاولة النقاش السياسي والتنفيذي. فبدون ضغط مجتمعي متماسك، ستظل مثل هذه المحطات تشتغل في غموض تقني وتدبيري، حيث تُغيب الشفافية، ويُطمس الحق في المعلومة، وتُؤجل المساءلة.

أما الحلول، فليست معقدة أو مستحيلة، لكنها تحتاج إلى إرادة صادقة ومقاربة شمولية. أولى هذه الخطوات تكمن في تعزيز أنظمة المراقبة البيئية، وربطها بمنصات رقمية مفتوحة أمام المواطنين. من غير المعقول أن يستفيق سكان المحمدية على طبقة من الغبار في غفلة من الزمن. كما أن تحديث المحطة، وتقليص اعتمادها على الفحم، أو في الحد الأدنى، تحسين تقنيات تصفيته، لم يعد خيارًا، بل ضرورة ملحة. يُضاف إلى ذلك، ضرورة إنشاء لجنة مستقلة، تضم خبراء بيئيين وممثلين عن السكان والمجتمع المدني، تكون لها صلاحيات المتابعة والتوصية، لا مجرد التجميل الإعلامي.

يبقى أن نقول إن المحمدية، وهي المدينة التي كانت تُلقب يومًا بـ”مدينة الزهور”، لا تستحق أن يُكتب اسمها اليوم على صفحات الجرائد بسبب الغبار الأسود. هذه المدينة تحتاج إلى نفَس تنموي نظيف، وإلى سياسات عمومية تراعي كرامة العيش وصحة الإنسان، لأن الهواء ليس ترفًا، بل حقٌّ لا يُساوَم عليه.

وفي خضم هذا المشهد القاتم، لا يسع المتتبع إلا أن يتساءل: أين هم نواب الأمة، أولئك الذين نُصّبوا تحت قبة البرلمان ليمثّلوا هموم المحمدية وصوت ساكنتها؟ ثلاثة نواب، من المفترض أنهم ينتمون إلى هذه الدائرة، ويعرفون جيدًا أن هواء المدينة لم يعد صالحًا للاستنشاق، ومع ذلك، صمتهم يكاد يكون أكثر سمّية من الغبار نفسه.

هل يُعقل أن تمر هذه الانبعاثات المتكررة دون إحاطة واحدة، دون سؤال كتابي، دون وقفة احتجاجية ولو رمزية داخل قبة البرلمان؟ هل كُتب على المحمدية أن تبقى رهينة لمعادلة قاسية: كهرباء للمغرب، وسُخام لأبنائها؟

إن غياب الترافع السياسي الجاد عن هذا الملف لا يثير فقط الشكوك حول جدية هؤلاء الممثلين، بل يفتح الباب أمام قراءة مُرّة: إما أنهم لا يشعرون بما يعانيه السكان، أو أنهم اختاروا الاصطفاف مع الصمت المريح على حساب الأمان الصحي للناخبين. وفي كلتا الحالتين، فإن التاريخ لا ينسى، والذاكرة الشعبية لا تغفر كثيرًا لمن باع الهواء النقي في مزاد المصالح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.