الغشاشون في رمضان: قلوب تخشع وأيادٍ تخدع

ضربة قلم
“من شب على شيء شاب عليه، ومن شاب عليه مات عليه”، مقولة قديمة تختصر مأساة أمة تعايشت مع الغش حتى صار جزءًا من هويتها، متغلغلًا في أنسجتها، ينعكس في معاملات أفرادها اليومية كما ينعكس القمر في ماء راكد. في رمضان، حيث تتطهر الأرواح وترتفع الأكف بالدعاء، يظل الغش حاضرًا في الأسواق، في المدارس، في الورشات، في السياسة، وفي كل زاوية من زوايا المجتمع، كأنه صائم عن التوبة، لكنه مفطر على الحيل والخداع.
الغش: مهنة من لا مهنة له؟
الغش ليس مجرد سلوك عابر، بل هو صناعة متكاملة، تحكمها قواعد دقيقة، وأصول متوارثة من جيل إلى جيل. لو كان الغش علمًا، لوجدنا له كليات تمنح شهادات عليا في “التلاعب بالزبون” و”فن تزييف الجودة” و”تقنيات سرقة الميزان دون أن يلاحظ أحد”.
تبدأ القصة مع رجل التعليم، الذي يغش أبناء الشعب في المدارس العمومية، ثم يذهب بنفسه ليقدّم دروسه المكثّفة في المدارس الخاصة بكل تفانٍ، كأنما هو شخص آخر، يستحق راتبًا إضافيًا ليؤدي واجبه. هو نفس الشخص الذي يتحسر على تدهور التعليم، بينما في الواقع، هو أحد نجوم هذا التدهور.
أما النجار، فاسألوا عنه من بنى بيتًا حديثًا ووجد أبوابه تنكمش صيفًا وتتضخم شتاءً كأنها كائنات حية تتفاعل مع الطقس. سائق التاكسي، هذا الفيلسوف المتجول، يتعامل مع الزبائن كما ظل يتعامل جحا مع ضحاياه؛ إن كنت غريبًا عن المدينة، فلك تسعيرة خاصة، وإن كنت مستعجلًا، فلك طريق أطول، وإن كنت غير منتبه، فالباقي من النقود قابل للمراجعة.
أما الحرفيون؟ فحدث ولا حرج. من نجا من ارتفاع الضغط أثناء بناء منزله، فلن ينجو من داء السكري عند الحساب الأخير. الإسمنت المغشوش، الحديد الذي يقل وزنه عن المطلوب، السيراميك الذي تتفتت أحلامك معه عند أول اصطدام بكعب الحذاء. كل شيء مدروس بحرفية تامة، ليس لإنجاز العمل بإتقان، بل لإتقان فن الاحتيال.
الغش في “المهن النبيلة“
لو كان الغش مقصورًا على المهن التجارية والصناعية لهان الأمر، لكنه تسلل إلى مجالات كان من المفترض أن تكون منزهة عن الدناءة. السياسة، مثلًا، تحولت إلى حرفة يتقن فيها البعض فن بيع الأوهام أكثر من إتقانهم لفهم مشاكل المواطنين. كم من سياسي أتقن فن الخطابة، لكنه لم يتقن أبدًا فن الإصلاح؟
أما الجمعيات، التي من المفترض أن تكون صوت الفئات الهشة، فقد تحولت بعضها إلى شركات خاصة يديرها “فاعلو خير” محترفون، لا يتصدقون إلا على أرصدتهم البنكية.
والأدهى من ذلك كله، أن الكثير من هؤلاء الغشاشين يمارسون شعائرهم الدينية بإخلاص شديد، فلا يفوتهم الصيام، ولا تغيب عنهم الصلاة، لكن الغش يظل حاضرًا في كل خطوة من حياتهم. كأنهم صاموا عن الطعام فقط، وأفطروا على أكل حقوق الناس.
التعميم لا يجوز
لكن الإنصاف يقتضي أن لا نعمم. فكما أن هناك من يغش، هناك من يعمل بضمير حي، ويحفظ الأمانة، ويقدّم خدمة نظيفة دون الحاجة إلى مراقب أو رقيب. هؤلاء هم الأمل الباقي، وهم الذين يحفظون ماء وجه المجتمع وسط طوفان الفساد الصغير والكبير. الفرق بين الغشاش والأمين ليس في الذكاء، بل في الضمير؛ الأول استبدله بحيلة، والثاني حافظ عليه كأغلى ما يملك.
وفي النهاية، يبقى السؤال: متى نصوم، ليس فقط عن الأكل، بل عن كل ما يخدش القيم؟