الفساد في المغرب.. حين تتحول المناصب إلى ماكينات لطباعة الأموال!

ضربة قلم
إذا كنا لا نعمم، فلا يمكن إنكار أن هناك مناصب ومسؤوليات تحول البئيس إلى ثري “لايت”، أي أن الشخص المعني يصبح فجأة مالكًا لعقارات وشركات، دون أن يجهد نفسه سوى بالتوقيع على بعض الوثائق المشبوهة، وابتكار طرق جديدة لتفريغ المال العام في جيوب خاصة. نحن لا نتحدث هنا عن تجار المناصب العليا، ولا عن المسؤولين في المراكز الحساسة، ولا حتى عن مديري المؤسسات العمومية، فهؤلاء لهم قصص أخرى، ربما أكثر إثارة للضحك… أو للبكاء!
خذوا مثلاً رئيس جماعة، مهمته الأصلية هي تنمية منطقته وخدمة السكان، لكنه يفضل استثمار وقته في عقد الصفقات المشبوهة، حيث تصبح التوقيعات سلعة تُباع وتشترى، والنتيجة مشاريع لا ترى النور أو تتعثر فور انطلاقها. هو رجل “خدماتي” بامتياز، يوقع على رخص السكن بأثمنة خيالية، ويغض الطرف عن خروقات التعمير مقابل صفقات مالية تجعل حساباته البنكية تنتفخ بسرعة صاروخية. الأسوأ من ذلك، هناك رؤساء جماعات يعشقون الابتكار، فيؤسسون شركات بأسماء “بكاري حنكو” (ذلك الشخص الغامض الذي يقف خلف المشهد)، بحيث يتكلف هذا الأخير بالفوز بالصفقات ويعيد حصة الأسد للفاعل الأصلي، مع بعض الإكراميات لمن يلزم.
أما المهندسون الذين من المفترض أن يحرسوا الشأن المحلي ويضمنوا تطبيق القوانين العمرانية، فقد تحولوا إلى صيادين محترفين، لا يتربصون فقط بالمقاولين، بل بمن يسمون “المنعشين العقاريين”، والنتيجة أحياء كاملة من المباني العشوائية التي تتهاوى مع أول قطرة مطر.
مديرو المصالح الجماعية، بدورهم، لا يضيعون الوقت في الروتين الإداري، بل يفضلون أسلوب الهجوم المباشر على “الجيوب الكبيرة”، فكل من سقط بين أيديهم مطالب بدفع “الرسم” غير القانوني قبل أن يُفتح له باب الخدمة العمومية. أما المكلفون بتسديد الفواتير والقباض، فهم لا يقلون مهارة عن زملائهم، فالمال العام بالنسبة إليهم مجرد “غنيمة حرب“.
ولأن القطاع العام لم يعد كافيًا لإشباع شهية الفساد، فقد فتح المجال أمام القطاع الخاص ليشارك في الوليمة. المؤسسات البنكية، مثلاً، لم تتردد في فرض شروط تعجيزية على المواطنين البسطاء، بينما تُفتح الأبواب أمام الحيتان الكبيرة للحصول على القروض بدون ضمانات حقيقية. وهكذا، يصبح المال متداولًا بين قلة مستفيدة، بينما يُترك البقية لمواجهة تعقيدات الحياة بلا دعم.
لكن لا تتوقف الحكاية هنا، فالفساد استوطن مجالات حساسة أخرى، يعرفها الداني والقاصي، من قطاع الصحة الذي تحولت مستشفياته إلى مسالخ بشرية لا تعالج بقدر ما تساوم المرضى، إلى قطاع العدل حيث تباع الأحكام وتشترى بالعلالي، ومرورًا بالتعليم الذي أصبح حقلاً تجاريًا يُجني فيه البعض الثروات على حساب مستقبل الأجيال. فلا فرق بين طبيب يطلب الإكراميات لعلاج مريض، وقاضٍ يغير مجرى العدالة بالهاتف، وأستاذ يبتز تلاميذه بالدروس الخصوصية. كلها حلقات متصلة في مسلسل الفساد الممتد.
الفساد في المغرب لم يعد مجرد تصرفات فردية معزولة، بل تحول إلى منظومة متكاملة، لها قوانينها الخاصة وطرقها الملتوية في توزيع المغانم. لا فرق بين القطاع العام والخاص، فالجميع ينهل من نفس المورد، والجميع يتفنن في “أكل الكتف”، بل وحتى “اللحم والعظم”، ولا يتركون سوى الفتات للعامة الذين يستيقظون كل يوم على أخبار الفضائح دون أن يتغير شيء.
في النهاية، لم يعد السؤال: من يفسد؟ بل: من لم يفسد بعد؟