مجتمع

الفصل 507: التهمة جاهزة والمعلومة غائبة والجهل يحاكم القانون!

ضربة قلم

في هذا العصر الرقمي حيث تُصنع الحقائق في مطابخ “الفايسبوك” وتُطبخ القوانين على نار “الترند”، خرج علينا البعض بفصل جديد من فصول العبث التشريعي الشعبي، مدّعين أن “الفصل 507” تمت المصادقة عليه في غفلة من الزمن، وكأن البرلمان المغربي أصبح تطبيقًا على الهاتف، ينزل التحديثات دون إشعار، ويُفعّلها تلقائيًا على عقول المستخدمين.

لقد تحولت وسائل التواصل إلى ساحات عامة، لا يُرفع فيها الأذان إلا لإشاعة، ولا تُقام فيها الصلاة إلا للجهل المقدّس. كل من حمل هاتفا ذكيا، صار “فقيه تشريعات” و”خبير قانوني” بصيغة النكرة. والنتيجة؟ حملة هستيرية بمزيج من الحماس الإلكتروني والمغالطات القانونية، كأننا أمام مسلسل تشويقي عنوانه: “الفصل 507… السلاح، الجريمة، والمصادقة الوهمية!”.

دعونا نُذكّر السادة المنتشين بهذا الخبر العاجل بأن الفصل المذكور ليس “مولودًا غير شرعيًا” في حضانة البرلمان، ولا هو مشروع قانون يتربص بالمغاربة خلف الكواليس. هذا النص، لمن فاته درس القانون في سنة أولى وعي، موجود منذ عقود، يرقد بسلام في حضن القانون الجنائي، بعيدًا عن قانون المسطرة الجنائية الذي لا يعرف عنه هؤلاء حتى الفرق بينه وبين وصفة طبية بخط يد طبيب عيّان.

المفارقة أن بعضهم استشاط غضبًا وهو يندب “حرية التعبير” التي اغتيلت برصاصة 507، متناسين -ويا لسخرية المصادفات- أن هذا الفصل لا علاقة له بالتعبير، لا من قريب ولا من بعيد، بل يخص اللصوص المزودين بأسلحة ومحركات، لا بالمغردين المزودين بالحماس والتأويلات الفيسبوكية. هؤلاء ببساطة خلطوا بين قانون يجرم السرقة بالسلاح، وقانون يضبط السير العشوائي للأخبار بين “الستوري” و”اللايف”.

لكن لِم نلومهم؟ في زمن صار فيه كل من يملك ميكروفونًا رقميًا يعتبر نفسه مصدرًا رسميًا أو صحافيا بزز، لم يعد للمنطق مكان. الأخبار الزائفة لا تحتاج اليوم إلى عبقرية، بل إلى “سكرين شوت” مزيف، وخلفية حمراء مكتوب عليها: “عاجل! تسريب خطير!”، لتصبح أي هلوسة قانونية قابلة للتداول وكأنها مرسوم ملكي.

ولأن المصيبة لا تأتي فرادى، تجد من يُصر على نشر المعلومة رغم تفنيدها من الجهات الرسمية، وكأنه يقول لك: “ماشي القانون اللي كنعرف، أنا عارف أش كاين!”، وكأن المنظومة القانونية برمتها يجب أن تخضع لرضاه الرقمي، وإلا فهي مؤامرة لتكميم الأفواه وإدخال البلاد في نفق الاستبداد التشريعي المظلم.

أما القضاة، فيا حسرة، صاروا في نظر هؤلاء مجرد ديكورات ببدلات سوداء، يُصدرون الأحكام كما يشاء “الترند”، ويُعدّلون الفصول حسب إملاءات “اللايك” و”الريتويت”. والواقع أن القانون، رغم مرونته أحيانًا، لا يُكتب تحت التعليقات، ولا يُعدّل على وقع الانفعالات العابرة.

ولعل أكثر ما يثير الغثيان هو هذا “النضال الافتراضي” الذي يجعل من الإشاعة بديلاً للواقع، ومن الخوف مادة للإثارة، ومن الغباء أداة للحشد. قانون الصحافة والنشر المغربي نفسه -وهذا لمن يحب المراجع- لم يسلم من التأويل، رغم أنه واضح كوضوح الشمس في عز الغباء: نشر الأخبار الزائفة المُربكة للنظام العام ليس حرية تعبير، بل عبث مع سبق الإصرار والترصد، يعاقب عليه القانون، لا بخلفية حمراء، بل بغرامات ثقيلة.

في النهاية، المعلومة القانونية ليست لغزًا من ألغاز دار الحي، بل هي ملك للجميع، شريطة أن يكون القارئ راغبًا في الفهم لا في الفتنة، في التحقق لا في التهييج، في البناء لا في البوز. لكن يبدو أن قاعدة “تحقق قبل أن تشارك” سقطت في المعركة، ورفعت الراية البيضاء أمام جيوش “مؤثري الفصول القانونية”.

ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه: هل سيأتي يوم نرى فيه المواطن المغربي يقرأ الفصل 507 من مصدره الحقيقي، أم سيظل يكتفي بقراءته من فم جاره الحاج فُلان، الذي لا يعرف الفرق بين الدستور والدستوس؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.