القائد الذي كان يعنّف المساخيط: حكاية رجل أنهكه العقوق أكثر من الفقر والجريمة

ضربة قلم
كان قد تقاعد منذ سنوات، لكن ما زال يحمل على ملامحه قسوة التجربة وطيفًا من الحدة التي لم تستطع السنين أن تذيبها. قائد سابق، خدم معظم مشواره المهني في القرى والمداشر النائية، حيث الحصير أبلغ من الأثاث، والدوار يعرف تفاصيل كل ساكن، وحيث الطاعة أوضح من القانون، والعقوق أخطر من الجريمة. رجل كانت مهمته أن يطبّق القانون، لكنه كان، من فرط ما رأى وسمع وعاش، لا يتردد في تجاوز الإجراءات إذا تعلق الأمر بـ”مسخوط الوالدين”.
يحكي بصوت غليظ، تحاصره التجاعيد من الجبهة إلى الذقن، عن سنوات طويلة قضاها متنقلا بين دواوير لا تصلها سيارات الإسعاف، ولا تعرف شيئًا عن “دور الرعاية”. هناك، حيث تنبح الكلاب على كل غريب، كان يعرف أن أكبر الكوارث لا تأتي من الفقر ولا من البرد، بل من شاب “عاق”، خرج من بطن أمه ليصفعها لاحقًا، أو صرخ في وجه والده، ثم عاد ليطلب من الدولة دعما ومأوى.
يقول القائد المتقاعد، وهو ينفث غضبه وكأنّه لم يتقاعد يومًا: “ما كرهتش المسخوط غير قانونيًا، كرهتهم إنسانيًا… المسخوط ماشي بحال المجرم. المجرم يمكن يندم، يمكن يكون مضطر، أما المسخوط؟ كيولد فيه الخبث ويترعرع عليه. كنت كنشوف الشاب كيغوت على مو، ولا كيسب باه، كنحس العافية شاعلة فيّا. ماكنستنا لا محضر ولا شكاية، كنقصد الباب، ونوريه بيدي شنو معنى التربية اللي ماخدهاش.”
قصة العقوق، بالنسبة إليه، ليست “ظاهرة اجتماعية”، بل جرح مفتوح في نسيج المجتمع، ينزف في صمت، ولا أحد يجرؤ على خياطته. كان يقول إن السلطة قد تتسامح مع تهريب قنطار شعير، أو خروف بلا وثائق، لكنها لا تتسامح مع من رفع يده على من أنجبه. “كنت كنشوف أم باقة فيها الروح غير باش تعطي وْلْدها، وهو مقابلها بالسّب. فاش كتدخل تفرّقهم، كتلقاها هي اللي كتعذر عليه، وتقول لي: سمح ليه، راه ولدي. وأنا كنقوليها: نتي لي خربتيه، نتي شريكته فالجريمة”، ثم يصمت قليلًا، يمسح وجهه بكفه كمن يستحضر مشاهد مؤلمة.
لم يكن القائد المتقاعد -الذي ظل يحب والدته- بحاجة إلى تقارير ولا إحصاءات ليقنع أحدًا بمدى استفحال ظاهرة العقوق، خصوصًا في صفوف الشباب. كان يراها في العيون المليئة باللامبالاة، في نبرة الأصوات المرتفعة على الآباء، في الشباب الذين يتعاملون مع أمهاتهم كما لو أنهن خادمات موسميات، وفي من يتركون الآباء في العراء ويمضون إلى المقاهي ليبصقوا على الوطن والزمان، كأن لا شيء أعطاهم شيئًا.
“راه كاين شباب مزيان، الله يعمرها دار، ولكن مساخيط الوالدين كيبانو من بعيد، بحال السوسة فالتفاحة… كيضربوا البسمة، ولكن اللّغة ديالهم كتفضحهم. كيعيّرو أمهاتهم بصوت هابط، كيتفاخروا فالمقاهي: ‘ما بقاش با يحكمني’… وما كيعرفوش أن الرجولة ماشي فالهروب من سلطة الأب، ولكن فالوقوف معاه ملي يطيح.”
يرى القائد أن الدولة، رغم القوانين، لا يمكن أن تحارب العقوق بالقضاء وحده، لأن هذا النوع من الجرائم يولد في المنازل قبل أن يصل إلى المحاكم. “اللي كيدّي والديه لدار العجزة، خاصو يمشي هو للحبس. اللي كيسب أمّو خاصو ياخد علاش أكثر من اللي شدّاتو الشرطة كيسرق تليفون. لأن العقوق هو بداية الانهيار، هو أول طعنة فظهر الوطن.”
قد لا تُنشر هذه الأقوال في نشرات الأخبار، ولن تجدها مطبوعة في تقارير رسمية، لكنها تسكن تفاصيل رجال كثر خدموا في الخفاء، واحتكّوا بالناس وجهًا لوجه. رجال كرهوا “المساخيط” ليس لأنهم يميلون إلى القسوة، بل لأنهم ذاقوا مرارة أن ترى أمًا تبكي وتدافع عن ابنها العاق في الوقت نفسه. رجل مثل هذا القائد، لا يزال يحمل غضبه كوسام، ويقول: “أنا كنفتخر أني كنت كنعنف كل مسخوط لوجه الإنسانية، ماشي لوجه السلطة… لأنني كنت كنعرف أن بحالي، قليل فهاد الزمان.”