مجتمع

القرى التي يبتلعها العطش: حين يتحوّل الماء إلى امتياز طبقي

إنجاز: يوسف الشرقاوي/ من على صفحات ضربة قلم

لم يعد العطش في المغرب مجرد مشهد موسمي يُطلّ كل صيف، بل بات شبحًا دائمًا يطارد آلاف القرى والمناطق الهامشية. ففي الوقت الذي لا يزال فيه صنبور الماء يُفتح بلا انقطاع في أحياء المدن الكبرى، تقف نساء وأطفال في قرى نائية تحت شمس قاسية ينتظرون قطرة حياة، قد تأتي على متن صهريج صدئ… أو لا تأتي.
لقد تحوّل الماء، هذا الحق الإنساني الأساسي، إلى امتياز طبقي حقيقي يفصل بين مغربين: مغرب يُروى ومغرب يُروّج له في نشرات الأخبار.

في عمق المغرب القروي، لم تعد الأزمة مرتبطة بموسم شحيح أو تساقطات متأخرة، بل بخلل هيكلي في تدبير المياه، وسياسات عمومية أثبتت فشلها مرارًا، ووعود لم تصمد أمام أول صيف قاسٍ.

أجساد عطشى وأرواح تنتظر

في دواوير من قبيل آيت عبدي ببني ملال وآيت الحاج بشيشاوة، لا يختلف الصباح كثيرًا عن الأمس أو ما قبله. وجوه مرهقة، نساء يحملن “السطولة”، وأطفال يركضون خلف شاحنات الماء، وكأنهم يطاردون شبحًا زئبقيًا.
تقول فاطنة، أرملة خمسينية:
“كنا نشرب من العين، لكنها جفّت. اليوم ننتظر الصهريج، وقد يمر أسبوع دون أن نراه. حتى البهائم عطشى”.

من دوار إلى دوار… صهاريج الإذلال

في ظل غياب قنوات مائية قارة، لا تملك الدولة حلًا سوى شاحنات صهريجية تتنقل بين القرى. لكنها شاحنات قليلة، وكمياتها محدودة، وتوزيعها عشوائي.
أمينة، أم لثلاثة أطفال من نواحي تاونات، تصرخ في وجه الواقع:
“في 2025 مازالين كنقلبو على دلو ديال الماء؟ لا نظافة، لا دوش، لا غسيل. هذا مشي عيش!”.
إنه واقع يختصره نشطاء جمعويون بقولهم: “ما يجري هو تدمير صامت للكرامة الإنسانية”.

السدود فارغة… والمشاريع متعثرة

رغم المجهودات المعلنة، فإن نسبة ملء السدود في المغرب لم تتجاوز 40 في المئة هذا العام، في تراجع مقلق يعكس هشاشة البنية التحتية المائية.
في قرية أولاد إدريس بسطات، تم تخصيص مليار و200 مليون سنتيم لمشروع مائي متكامل. الحفر بدأ، المضخة ركّبت، ثم… اختفى المقاول، وضاع المشروع في رمال التلاعبات.

القرى التي يبتلعها العطش: حين يتحوّل الماء إلى امتياز طبقي

الفلاحة تسقط… والنزوح القروي يتسع

الضربة لم تطل فقط العائلات، بل أيضًا الفلاحة الصغيرة. في زاكورة وتارودانت وقلعة السراغنة، جفّت الآبار، وضاعت محاصيل الطماطم والبصل، وغدت الأرض التي كانت تعيل أسرة كاملة أرضًا جرداء لا تسقيها سوى الحسرة.
هذا الوضع دفع بعدد من القرويين إلى الهجرة القسرية نحو المدن، ما يُنذر بموجة نزوح داخلي قد تفرز اختلالات عمرانية واجتماعية عميقة.

الدولة تتأخر… والناس يفقدون الثقة

رغم البرامج التي تُعلن كل مرة تحت عناوين براقة، إلا أن القرى لا ترى شيئًا يتغير. تحلية مياه البحر؟ نعم، لكن فقط على الشريط الساحلي. دعم جمعيات الماء؟ فكرة جميلة، لكنها لا تخرج من الأوراق.
في خضم هذا الفشل، تتعالى أصوات القرويين بسؤال بسيط: “هل نحن مواطنون من درجة ثانية؟”.

الخاتمة: الماء أو الفوضى الصامتة

إن أزمة الماء في القرى المغربية ليست مجرد خلل في التدبير أو سوء تقدير، بل مؤشر على أزمة أعمق تتعلق بالعدالة المجالية وكرامة المواطن.
الماء ليس ترفًا ولا خدمة إضافية، بل هو الحياة نفسها. والحق في الماء ليس شعارًا، بل التزام يجب أن يُترجم على الأرض، بالصهاريج أو بدونها.
فإما أن يتحرّك الجميع – حكومة، مجالس، مجتمع مدني – لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو أن نستعد لمغربٍ ينقسم فيه الوطن إلى مركزٍ مرتوٍ، وهامشٍ يئن من العطش.

الوضعية الراهنة:

في الوقت الذي يعيش فيه المغرب على إيقاع فصول متوالية من الجفاف، أصبحت أزمة الماء الشروب، خصوصًا في العالم القروي، واحدة من أكثر القضايا إلحاحًا واستعجالًا. لم تعد المسألة ترتبط فقط بتراجع التساقطات، بل امتدّت إلى ضعف البنية التحتية، سوء التوزيع، وتفاوتات مجالية صارخة تُضاعف معاناة الساكنة في القرى والمداشر. سنة 2025 جاءت لتُعمّق هذه المفارقات، في وقت ما زالت فيه المشاريع المائية الكبرى قيد الإنجاز، وما زالت القرى تنتظر نصيبها من “القطرة”.

نسبة ملء السدود:
بلغت نسبة ملء السدود حوالي 35.3%، ما يعادل 5.94 مليار متر مكعب من المياه.

  • نقص حاد في المياه:
    أكثر من 700 دوار يعاني من خصاص حاد في التزود بالماء الصالح للشرب، نتيجة التراجع الكبير في التساقطات وتدهور البنية التحتية.
  • ربط القرى بالشبكة:
    حوالي 60% من سكان القرى لا يزالون خارج الشبكة الرسمية للماء الشروب، مقابل 40% فقط يستفيدون منها.

التهديد بالندرة المطلقة:

يُتوقع أن يُواجه حوالي 35% من المغاربة خطر “الندرة المطلقة” للماء الشروب بحلول نهاية سنة 2025، خاصة في الجهات الداخلية والجبلية.

مشاريع تعزيز التزويد:

  • إنجاز محطات جديدة لتحلية مياه البحر
  • توسيع شبكات التوزيع وربط الأحواض المائية
  • حفر وتجهيز الآبار
  • إعادة استعمال المياه العادمة المعالجة

الجهود الحكومية:

البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي (2020 – 2027)

  • الميزانية: 115.4 مليار درهم
  • الأهداف:
    ▫ تنمية العرض المائي
    ▫ تحسين تدبير الطلب
    ▫ تقوية التزود بالماء في القرى
    ▫ تأمين حاجيات المدن الكبرى عبر مشاريع التحلية (أكادير، الحسيمة، الداخلة…)

التوصيات الراهنة:

  1. تسريع وتيرة ربط القرى النائية بشبكة الماء الصالح للشرب، مع التركيز على الدواوير الجبلية والمناطق المعزولة مثل:
    • زاوية بن حميدة (إقليم الصويرة)
    • تملالت وسيدي رحال (إقليم قلعة السراغنة)
    • توامة وتزارت وثلاث ن يعقوب (إقليم الحوز)
    • سيدي المختار وتاولوكلت (إقليم شيشاوة)
    • الجبيلات والفرائطة (إقليم اليوسفية)
    • امليل وتيزي وسلي (صفرو وكرسيف)
    • أنفكو وتنغير وأزيلال (المناطق الجبلية الوسطى)
  2. دعم الجماعات المحلية في اقتناء صهاريج وخزانات متنقلة للمناطق المتضررة بشكل عاجل.
  3. تعزيز البعد الجهوي في السياسات المائية، مع وضع معايير واضحة لتحديد الأولويات حسب الحاجة، لا حسب النفوذ الإداري.
  4. الاعتماد على الطاقة الشمسية في تشغيل مضخات المياه في المناطق القروية لتقليل الكلفة وضمان الاستدامة.
  5. تشجيع الزراعة الذكية والمقتصدة للمياه، خاصة في المناطق الفلاحية الجافة مثل الرحامنة، زاكورة، وطاطا.
  6. إشراك السكان المحليين والمجتمع المدني في تدبير الموارد المائية ومراقبة عدالة التوزيع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.