مجتمع

القضاء بين مطرقة التشهير وسندان المساءلة: من يُمسك ميزان العدالة؟

ضربة قلم

حين يخرج القاضي عن صمته، فاعلم أن الكيل قد فاض. هذا ما يمكن استنتاجه من الحملة الأخيرة التي انطلقت عبر الصفحة الرسمية لنادي قضاة المغرب، والتي ردّ فيها عدد من القضاة على ما وصفوه بـ”حملات التشهير الممنهجة” ضدهم على منصات التواصل الاجتماعي.

وإن كان من حق القضاة، كمواطنين قبل أن يكونوا حماة للعدالة، الدفاع عن كرامتهم وسمعتهم، فمن واجبنا، كمجتمع، أن نفتح هذا الملف بحذر العاقل لا بانفعال الغاضب، وبمبضع النقد البناء لا بهراوة الإدانة المجانية.

القضاة ليسوا ملائكة… ولا شياطين

القاضي ليس ملاكًا معصومًا، ولا شيطانًا يتغذى على معاناة الناس. هو موظف عمومي له سلطات استثنائية، صحيح، لكنه خاضع بدوره لمبدأ الرقابة والمساءلة، شريطة أن تُمارس هذه الرقابة داخل إطار القانون، لا عبر فيديوهات فايسبوكية أو تدوينات غاضبة محشوة بأحكام القيمة والاتهامات المجانية.

لكن، لنكن واقعيين: لولا شعور جزء من المواطنين بالحيف، لما تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى محاكم شعبية بديلة. وهذه ليست دعوة لتبرير التشهير، بل دعوة لفهم السياق الذي أفرز هذه الظاهرة.

حين تغيب الثقة، يحضر “فايسبوك

لا يمكن قراءة هذه الحملات في معزل عن مناخ عام تسوده الشكوك، حيث يَعتبر بعض المواطنين – بحق أو بغير حق – أن “العدالة لا تشتغل للجميع بنفس الميزان”. هم لا يُشككون بالضرورة في القضاء كمؤسسة، بل في بعض الممارسات المنسوبة إلى أفراد داخل هذه المنظومة، ممن “يُحكى” عنهم الكثير في المقاهي، ولا يُتابعهم أحد في المحاكم.

الناس حين تفقد الثقة في قنوات التبليغ والمؤسسات الرقابية، تلجأ إلى الفضاء الأزرق، تُسجل، تُصوّر، وتفضح. هل هو الحل الأمثل؟ لا. لكن هل هو مرض بلا أعراض؟ أيضًا لا.

استقلالية القضاء لا تعني قدسيته

حين يتحدث بعض القضاة عن “محاولات لضرب استقلالية القضاء”، علينا أن نميز بين النقد المشروع والاستهداف الممنهج. صحيح أن هناك من يتعمد تسفيه كل المؤسسات، وربما بتأطير سياسي مفضوح. لكن بالمقابل، هناك مواطن بسيط، يرى أن حقه ضاع بين الملفات المؤجلة والأحكام المجتزأة، ويجد نفسه وجهاً لوجه أمام قاضٍ يرفض حتى الاستماع إليه.

فهل يُطلب من هذا المواطن أن يكتب عريضة دستورية؟ أن ينتظر المفتشية العامة؟ أم أن يتحدث حيث يسمعه الناس، في تدوينة، أو فيديو، أو حتى تعليق ساخط؟

القضاة، حين يستنكرون النقد، يجب ألا يضعوه كلّه في خانة “العداء للمؤسسة”. لأن المواطن ليس عدوا للقضاء، بل لظلمه، حتى إن جاء في عباءة القانون.

القضاء ليس هشاً حتى تسقطه تدوينة

الردود التي جاءت على الصفحة الرسمية لنادي قضاة المغرب فيها شيء من الغضب المشروع، لكن فيها أيضًا لهجة تُوحي أن القضاء المغربي قد ينهار أمام بضع “فيديوهات فيسبوكية”، وهذا غير صحيح. فالمؤسسة التي تحكم باسم جلالة الملك، وتُنصّب القاضي في مرتبة سامية، لا يجب أن تخاف من النقد، بل أن تُواجهه بالشفافية، والتواصل، وفتح القنوات لا إغلاقها.

والسؤال هنا: لماذا يغيب صوت القضاء عن الإعلام العمومي؟ لماذا لا نرى قضاة يتحدثون عن قراراتهم، يُفسرونها، يُقنعون الرأي العام بشرعيتها؟ أليست هذه فرصة لترميم الثقة بدل ترك الفايسبوك يحرق السفينة؟

دعونا لا نُشيطن الجميع

نعم، هناك من يستغل منصات التواصل للابتزاز، للضغط، أو لتصفية الحسابات، وهؤلاء يجب أن يُتابَعوا بقوة القانون. لكن بالمقابل، لا يجب أن نضع جميع المنتقدين في سلة “الحاقدين”، وإلا أصبحنا نُحاكم النوايا بدل الأفعال.

ما نحتاجه اليوم هو قضاء شجاع، يُحاسب داخليًا قبل أن يُحاسبه الآخرون خارجيًا. نحتاج إلى جهاز قضائي يُخرج الملفات إلى النور، لا يخبئها في أدراج “السر المهني”.

كلمة أخيرة إلى القضاة: أنتم في موقع حساس… فلا تغضبوا سريعاً

الرد الغاضب من طرف بعض القضاة قد يكون مفهومًا بشريًا، لكنه غير مقبول أخلاقيًا. لأن القاضي حين يُستفَز، لا يُردّ بالصراخ، بل بالحُكم العادل. ولأن من اختار أن يُمسك ميزان العدالة، لا يجب أن يميل به عند أول تعبير شعبي عن الغضب.

أما الطرف الآخر، الذي يظن أن التدوينات والتشهير طريق لتحقيق العدالة، فعليه أن يُدرك أن المسّ بالسمعة قد يُصيب البريء قبل المُدان، وأن الفوضى ليست بديلاً للمؤسسات، بل بداية الانهيار.

فلا القاضي فوق النقد، ولا المواطن فوق القانون. أما العدالة، فتبقى فوق الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.