مجتمع

القنيطرة: 33 حانة لطقوس الليل والنهار وسكرة لا تنتهي!

ضربة قلم

يقال إن لكل مدينة سحرها الخاص، فتارة يكون السحر روحياً، كما هو الحال في مراكش التي تباهي بسبعة رجال من أهل العلم والبركة، وتارة يكون السحر كحوليًا كما هو الحال في القنيطرة، حيث تنتصب 33 حانة كما تنتصب الصوامع في المدن العريقة، مع فارق بسيط: الصوامع تدعو إلى الصلاة، بينما هذه “المعالم” تدعو إلى… كل ما عدا ذلك. وإذا كانت مراكش تفخر بتاريخها الروحي العريق، فإن القنيطرة تفخر بتاريخها الكحولي المتجذر، حيث تستعد حاناتها الـ33، بعد أن ودعنا شهر رمضان، لاستعادة نشاطها اليومي على مدار السنة، وكأنها مصانع توقفت مؤقتًا للصيانة والآن تعود للعمل بكامل طاقتها الإنتاجية.

هذه الحانات ليست مجرد أماكن للترفيه، بل هي مؤسسات قائمة بذاتها، لها زبائنها الأوفياء الذين ينتظرون افتتاحها كما ينتظر الفلاح أولى زخات المطر بعد موسم جفاف. وبينما كانت المدينة تبدو هادئة خلال الشهر الكريم، تستعد الآن لاستعادة إيقاعها الصاخب، حيث تبدأ جلسات النقاش العميقة التي تنطلق عادة بفلسفة حول معنى الحياة، قبل أن تتحول إلى مشاجرات محتدمة حول من يدفع الحساب أو من يشبه مارادونا أكثر.

أما أصحاب هذه الحانات، فقد بدأوا منذ أيام في تجهيزها لاستقبال موسم العودة، فمنهم من استورد كراسٍ جديدة تحسبًا للازدحام، ومنهم من جدد لائحة الأسعار لتتماشى مع التضخم، ومنهم من اكتفى بمسح الغبار عن الرفوف وانتظار أول زبون يدخل ليكسر حاجز الصمت الذي خيّم على المكان طيلة شهر. إنه احتفال من نوع آخر، حيث يستأنف المرتادون تدريباتهم اليومية في رفع الأكواب، ويتجدد اللقاء بين “عشاق الليل” على طاولاتهم المعتادة، وكأن الحياة لم تتوقف يومًا.

وكما أن لكل مدينة زوارًا يقصدونها لأسباب سياحية أو اقتصادية، فإن القنيطرة لها زوارها المخلصون الذين يقطعون المسافات الطويلة للوصول إلى حاناتها، فهم ليسوا مجرد سكان محليين، بل خليط متنوع من الضيوف القادمين من نواحي المدينة، من سيدي يحيى زعير إلى سيدي سليمان، وكلها مناطق تحمل أسماء أولياء وصالحين كان يُفترض أن يباركوا الأرض التي سُمّيت تيمُّنًا بهم، لكن يبدو أن البركة تحولت إلى سائل كحولي يُسكب في كؤوس لا تنضب. وهكذا، نجد أنفسنا أمام ظاهرة تستحق التأمل، حيث تأتي أفواج من الرجال بجلابيب نصف مفتوحة، يتمايلون في الأزقة بحثًا عن وسيلة نقل تعيدهم إلى قراهم، بعد أن أنفقوا ما يكفي لشراء أحذية جديدة، لكنهم فضّلوا المشي حفاة في دروب عشق الليل على أن يواجهوا الحقيقة بأعين يقظة.

ولأن القنيطرة مدينة لا تخيب ظن محبيها، فإنها تمنحهم دائمًا المشهد الذي يتوقعونه: رجال يخرجون من الحانات بعيون زائغة، بعضهم يهمس بكلمات غير مفهومة، وآخرون يتبادلون العناق بطريقة توحي بأنهم إما يتصالحون مع العالم أو يستعدون لمشاجرة تاريخية. إنها سيمفونية معتادة، حيث يمتزج صوت الموسيقى الصادرة من الداخل مع أصوات المشاحنات في الخارج، بينما النادل يراقب المشهد ببرود القاضي الذي اعتاد رؤية المتهمين أنفسهم يعودون كل يوم إلى المحكمة بنفس التهم ونفس الأعذار.

إنها هجرة ليلية غير مدروسة التأثير، تساهم بشكل أو بآخر في عملية “ترييف” المدينة، حيث يجد سكان القنيطرة أنفسهم أمام مشهد غير مألوف: رجال يتمايلون في الأزقة بحثًا عن وسيلة نقل تعيدهم إلى قراهم، بعد أن أنفقوا ما يكفي لشراء أحذية جديدة، لكنهم فضّلوا المشي حفاة في نفس الدروب الليلية. وهكذا، يتحول المشهد الحضري في بعض أحياء القنيطرة إلى خليط بين سحر المدن ونكهة القرى، حيث يتجاور الضوء الخافت للمقاهي الراقية والتقليدية أيضا مع ظلال عابري الليل الذين تركوا وراءهم آخر درهم في جيوبهم، وعادوا إلى بيوتهم بذكريات لا يتذكرونها.

إن هذه المدينة، التي ما زالت تحتضن القاعدة الجوية الثالثة، باتت عبارة عن أنفاس محملة بالكحول تتصاعد في الهواء، و”المعارك” تُخاض على طاولات خشبية بائسة، بينما الأبطال يسقطون الواحد تلو الآخر، ليس بالرصاص الطائش، بل برصاص زجاجات فارغة. هنا، الحرب لا تحتاج إلى أسلحة، بل فقط إلى جيوب ممتلئة في بداية الليل، وأقدام متعثرة في نهايته.

وكلما حلَّ الليل، عادت المدينة إلى طقوسها القديمة، وكأنها لم تغب يومًا عن المشهد. ها هي الأضواء الخافتة للحانات تنير زوايا الأزقة، وها هي أصوات الضحكات العالية تملأ الفضاء، وها هم النوادل يتحركون بسرعة بين الطاولات، محملين بكؤوس مليئة بأحلام زبائنهم السائلة. وبينما يغطّي الليل على كل شيء، تبقى القنيطرة مدينة تعيش نهارها بشكل، وليلها بشكل آخر، مدينة تقاوم كل شيء إلا إدمانها المزمن على 33 عنوانًا للفوضى المنظمة.

وفيما تُعيد القنيطرة ترتيب فوضاها الليلية، يبقى السؤال معلقًا: هل هذه الظاهرة مجرد جزء من “هويتها الثقافية” أم أنها انعكاس لتحولات اجتماعية واقتصادية أعمق؟ البعض يرى فيها حرية شخصية، والبعض الآخر يراها مؤشراً على أزمة قيمية متفاقمة. لكن وسط هذا المشهد الصاخب، لا يمكن تجاهل الوجه الآخر للمدينة، حيث تنبض القنيطرة بحياة فكرية مختلفة تمامًا، تحتضن نخبة من المثقفين والفنانين الذين يساهمون في إغناء المشهد الثقافي رغم كل التحديات. هؤلاء، يسهرون على إنتاج الفكر ويخوضون معاركهم في قاعات الندوات وصفحات الكتب. ومع ذلك، يظل التعايش بين العالمين قائمًا، حيث تتجاور النقاشات الفلسفية مع الضحكات السكرى، كما يتجاور الحلم بالتغيير مع واقع يرفض أن يتغير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.