الكذب والبخل: حين يتحوّل الخلل الأخلاقي إلى عُرف اجتماعي صامت

ضربة قلم
ابتُلي المجتمع المغربي، شأنه في ذلك شأن مجتمعات أخرى، بظاهرتين مشينتين تفرزان آثارًا سلبية لا يمكن التقليل من شأنها: الكذب، بكل ما يحمله من تزييف للحقيقة، والبخل، بكل ما يخلّفه من حرمان وقسوة. وما يجعل الأمر أكثر فداحة هو أن هاتين السلوكيتين لم تعودا فقط حالات فردية معزولة، بل تحوّلتا لدى البعض إلى “عادات اجتماعية” تمارس ببرودة، وأحيانًا بفخر مستتر.
الكذب: تزييف للواقع باسم “الذكاء”
في المغرب، لا يُعد الكذب مجرد وسيلة للهروب من العقاب أو التهرب من المسؤولية، بل تحوّل عند بعض الأشخاص إلى حيلة يومية لتزيين الذات أو تبرير الفشل أو حتى للظهور في صورة البطل أو الضحية. والمؤسف أن البعض يكذب ثم يقتنع بكذبته، فيكررها حتى يصدّقها، ومن ثمة يجعل منها “حقيقة بديلة” يدافع عنها بضراوة.
أحد أخطر تجليات هذه الظاهرة هو الكذب المُمنهج في العلاقات الإنسانية، حيث لا يُصارح الصديق صديقه، ولا الزوج زوجته، ولا الموظف رؤساءه، ولا السياسي ناخبيه. الكل يخشى الحقيقة، والكل يتفنّن في تجميل الأكاذيب… وفي خضم ذلك، تفقد الثقة معناها، ويضيع الصدق في زحمة التمثيل اليومي.
وهنا، لا يمكننا إغفال الكذب الذي يمارَس باسم “النيّة الحسنة” أو ما يُسمّى بالمجاملات البيضاء. فكم من علاقات انهارت، لا بسبب الصراحة الجارحة، بل بسبب أكاذيب ناعمة راكمت الخداع حتى انفجر.
البخل: فقر الروح رغم وفرة المال
أما البخل، فهو ليس فقط نقصًا في الكرم أو الاقتصاد في الإنفاق، بل هو في جوهره فقر داخلي، يعكس خللاً في المنظومة النفسية والأخلاقية للفرد. فالبخيل، حتى حين يكون غنيًا، يعيش بعقلية الفقر. يخبّئ ماله، ويمنع نفسه وأحبّاءه من التمتع به، وكأن الإنفاق رجس، والعطاء خطيئة.
الأسوأ أن هناك من يبخل على نفسه أولًا، فيعيش عمره محرومًا من أبسط ملذّات الحياة، فقط ليزيد من رصيده البنكي أو ليظل في مأمن من “أي طارئ”. هذا النوع من البخل ليس شُحًّا ماديًا فحسب، بل هو شحّ وجداني ينعكس على العلاقات العائلية والاجتماعية. فالبخيل لا يعرف الفرح الجماعي، ولا يتقن لغة المشاركة، ويزرع البؤس حيثما حل.
والأخطر حين يتحوّل البخل إلى “مبدأ” يُدرّس للأبناء: لا تُعطِ كثيرًا، لا تثق بأحد، لا تتبرع، لا تساعد… فتكبر الأجيال وهي تحمل فوبيا العطاء، وتحتقر روح السخاء.
حين يتقاطع الكذب بالبخل
ما يجمع بين الكذب والبخل هو أنهما يسهمان في تدمير النسيج المجتمعي بشكل غير مرئي. الكاذب يفسد الثقة، والبخيل يفسد المودة. وفي كثير من الأحيان، نجد شخصًا يخلط بين الاثنين: يقدّم نفسه كريمًا وهو في الحقيقة شحيح، أو يظهر بمظهر الإنسان الصادق وهو لا يقول إلا ما يوافق مصلحته.
وما يزيد الطين بلّة هو أن بعض الناس باتوا يبررون هذه السلوكيات تحت ذرائع الحداثة، أو الظروف الاقتصادية، أو حتى “الحكمة”. فالكذب عند البعض “ذكاء اجتماعي”، والبخل “تدبير معقول”. وهكذا، بدل أن يُدان الفعل، يُكافأ، وبدل أن يُصحّح الخطأ، يُمنح غطاءً أخلاقيًا.
هل من سبيل للنجاة؟
إن تجاوز هذه الظواهر لا يكون بالوعظ والخطب فقط، بل عبر التربية على القيم الصادقة منذ الطفولة: قول الحقيقة ولو كانت مُرّة، والكرم ولو كان بسيطًا. يجب أن يُربّى الأطفال على أن العطاء لا يُقاس بالمبلغ، بل بالنية، وأن الصدق لا يعني القسوة، بل النزاهة.
كما أن المجتمع المدني، والمدرسة، ووسائل الإعلام، وكل منصات التأثير، مطالَبة اليوم بإعادة الاعتبار لفضيلتين كبُرتا ذات يوم في ضمير المغاربة: الصدق والكرم. ففي تراثنا، الصدق منجاة، والكرم شرف. وإن فقدناهما، فما الذي يبقى لنا؟