الكرامة السكنية: حين يتحول السكن الاقتصادي إلى قنبلة اجتماعية

ضربة قلم
كان الحلم بسيطًا: “سكن محترم بثمن مناسب”.لكن، كما يحدث دائمًا، الحلم المغربي ما إن يخرج من الورق حتى يتحول إلى كابوس إسمنتي اسمه السكن الاقتصادي.
عمارات متلاصقة كعلب السردين، نوافذ تُطل على نوافذ، شرفات تتبادل الأسرار أكثر مما تتبادل التحية، وجدرانٌ لو كان لها لسان لطلبت الإعفاء من العمل. في كل طابق، قصص بشرية مختنقة بين الجدران الرقيقة والضجيج المتواصل.
العيش داخل الصندوق
في هذه المجمعات السكنية، لا فرق بين غرفة النوم وغرفة المعيشة سوى الستارة.
الطفل يراجع دروسه وسط ضجيج الجيران، والأب يشاهد الأخبار على صوت الراديو القادم من الشقة المجاورة، والأم تُعد الطعام وهي تسمع تفاصيل شجار عائلة أخرى دون أن تقصد التجسس. هنا، لا وجود لـ”الخصوصية”. الجدار لا يمنع الصوت، والباب لا يمنع الفضول.
تعيش الأسر وكأنها داخل صندوق جماعي من القلق، حيث كل نفس محسوب، وكل حركة مسموعة، وكل مشكلة تُذاع على “قناة العمارة الرسمية”.
الضجيج كعقوبة يومية
الضجيج في السكن الاقتصادي ليس صدفة، بل قانون غير مكتوب.
طفل يبكي، كلب ينبح، شجار زوجين، موسيقى مهرجانية في الطابق العلوي، صوت المطرقة في الجدار، ثم الجار الذي يصرّ على استعمال المثقاب في منتصف الليل وكأنه يعلن حالة الطوارئ.
يستيقظ السكان مرهقين دون أن يشتغل أحدهم فعليًا. فالحياة هنا عمل بدوام كامل في مقاومة الصخب.
من حلم السكن إلى جحيم التعايش
حين انطلقت مشاريع السكن الاقتصادي، كانت الشعارات براقة:
“محاربة السكن غير اللائق”، “تمكين الأسر من الكرامة السكنية”.
لكن النتيجة كانت عكسية:
انتقل الناس من “البرّاكة” إلى “الإقامة”، دون أن تنتقل الدولة من منطق الإيواء إلى منطق العيش الكريم. أصبحت العمارة تجمع خليطًا من الطبقات، والثقافات، والعادات المتصادمة:
– هذا يصرخ في الهاتف من الشرفة،
– ذاك يطبخ في الممر،
– وتلك تُنشر الغسيل أمام النافذة كراية انتصار على الخصوصية.
الفضاء ضيّق لدرجة أن العلاقات الاجتماعية تُختصر في جملة:
“سمح ليا جاري، ماشي قصدي نسمعكم.”
لكن الجار الآخر يسمعك أيضًا، ويقول في نفسه:
“حتى أنا ماشي قصدي نعرف شنو كتاكل.”
جدران بلا روح
هذه المساكن تفتقد شيئًا أهم من المساحة: الدفء الإنساني. فالهندسة المعمارية لم تترك مكانًا للحلم أو الهدوء أو التواصل. كل شيء مكرّر، رمادي، محشور، بلا هوية. حتى الأطفال الذين يكبرون هنا، يكبرون داخل نمط واحد:
باب واحد، ضجيج واحد، ضيق واحد، أفق واحد.
السكن الاقتصادي حوّل الإنسان إلى رقم في الإقامة رقم (B3)، الشقة رقم (14).
الاسم اختفى، وصار العنوان هو الهوية.
القنبلة الاجتماعية القادمة
ما يحدث اليوم ليس مجرد “اكتظاظ عمراني”، بل احتقان اجتماعي صامت.
حين يعيش الناس بلا خصوصية، بلا راحة، بلا احترام للمساحة الشخصية، يتحول البيت إلى سجنٍ اختياري. تكثر المشاجرات، ينهار الزواج، يهرب الشباب إلى الشارع، وتتحول العمارة إلى ساحة حربٍ نفسية. الكرامة السكنية ليست أن تملك سقفًا فوق رأسك، بل أن تشعر أن هذا السقف يحميك من العالم لا يضغط على صدرك كل يوم.
السكن لا يُقاس بالمتر… بل بالكرامة
الحق في السكن لا يعني فقط قطعة إسمنتية مغلقة بباب حديدي. بل يعني فضاءً يحترم خصوصية الأسرة، وصمتها، وأحلامها الصغيرة. ولأننا في زمن الشعارات، صار يكفينا أن نقول:
“عندنا برنامج السكن الاجتماعي.”
لكن لا أحد يسأل:
“هل هو سكن… أم مجرد إقامة دائمة في الضجيج؟”




