مجتمع

الكلام الخايب في شوارعنا: من السوق للمدرسة، الشتيمة صارت لغة رسمية!

ضربة قلم

في المغرب -وخصوصًا في مدنه الكبرى-  لا تحتاج إلى قاموس لغوي لفهم الناس، بل إلى خوذة واقية من الكلمات النابية، ودرع لغوي يحميك من الرشقات اللفظية العشوائية. نحن لا نتحدث هنا عن “زلة لسان” أو “كلمة خرجت بالغلط”، بل عن ثقافة كاملة، راسخة، متجذّرة في الشارع المغربي كجذور شجرة توت في حي شعبي.

في هذا البلد الجميل، قد تستيقظ صباحًا على نداء مؤذن، ثم تكمل فطورك على أنغام سبّاب الجيران، وتحظى بمرافقة موسيقية مجانية من الشتائم في طريقك إلى العمل، خصوصًا إن مررت قرب سوق، أو ملعب، أو ثانوية… أو ببساطة، أي مكان فيه تجمع بشري غير مراقب.

الأسواق: مهرجانات النعت المجاني

في السوق، لا أحد يبيع الخضر فقط. هناك من يبيع الكرعة، البطاطا، والثوم، ومعها “حزمة شتائم” مجانًا. يكفي أن تسأل عن الثمن دون نية الشراء، لتتحول فجأة إلى نوع من الحيوان أو “مول وجهين”، أو تُتهم أنك من أتباع “الماركات” ولا تفهم في الفلاحة.

وإن تصادف أن اثنين من الباعة قررا أن يختصما على زبونة اشترت من هذا ولم تشتر من ذاك، فهنيئًا لك بمشاهدة عرض حيّ من “فنّ الخطابة السوقي”، حيث تُستخرج كنوز لغوية لا توجد لا في المنجد ولا في لسان العرب، بل في لسان العصب!

الأحياء الشعبية: حيث كل كلمة طلقة

الأحياء الشعبية لا تحتاج لمكبرات صوت. كل شيء يُقال بصوت مرتفع، وغالبًا بصيغة هجومية. الطفل يسب الطفل، المراهق يسب الحيط، الكهل يسب الزمان، والنساء يضفن لمسة “إبداعية” على الكلمات، عبر تصريفها على مقاس الجيران والحموات.
“اللي ما يعرفش يقول…”، “الله ينعل اللي…”، كلمات تبدأ صغيرة وتنتهي بخصومات بين عائلات، أو بتدخل عاجل من “المقدم”.

في هذه الأحياء، الشتيمة ليست فقط لغة تعبير، بل أداة تواصل، طريقة في التفاوض، وحتى وسيلة تربوية عند البعض. هناك من يعتقد أن “الضرب مافيه فايدة، ولكن سبّة محترمة ترجع الولد للطريق الصحيح”.

الملاعب: مباراة بين فريقين وسبّ بين جمهورين وأمّين

إذا كنت تظن أن دخول ملعب كرة قدم يضمن لك المتعة الرياضية، فأنت واهم. المتعة الحقيقية -عند البعض- تبدأ من المدرجات، حين يرفع أحدهم لافتة، ويرد عليه آخر بعبارة فاحشة، وتتحوّل المباراة إلى مهرجان من الإهانات المنظمة.

“سب الأم” في الملاعب صار عرفًا. الأم هنا ليست طرفًا في المباراة، لا تلعب، لا تشجّع، ولا حتى تعلم أن ابنها في المدرج، لكنها تأخذ نصيبها كاملاً من كل جمهور، ومن كل لاعب أضاع هدفًا.

أما إذا كنت من ذوي الذوق الحساس، فننصحك بمشاهدة المباراة على “الميتاد”، لأن ما ستسمعه في الواقع يفوق في صراحته جميع قنوات البالغين.

أمام المدارس: تربية أم تصفية حسابات؟

المدرسة، ذلك المكان الذي يُفترض أن يكون واحة للتربية، صار أحيانًا مجرّد بوابة لـ”مهرجان شتائم مصغّر”.
تلميذ يسب أستاذه لأنه منحه نقطة ضعيفة.
أب يسب مدير المؤسسة لأنه رفض تسريب الامتحان.
حارس يسب المارة لأنه “عندو الصلاحيات”.
وأمهات ينتظرن أبناءهن و”يفرجن الغلّ” على كل من مرّ.

بل إن بعض التلاميذ أصبحوا يتدربون على السبّ كما يتدرب غيرهم على الإملاء. يحفظون “الشتائم الثقيلة” عن ظهر قلب، ويختبرونها مع أصدقائهم في ساحة المدرسة. والويل لمن يُخطئ في “نطق القاف”!

لكن من المسؤول؟

نحن؟ الشارع؟ مواقع التواصل؟ البرامج التلفزية؟ الدولة؟ التربية؟ الواقع أن الكل مشترك في هذه المعركة الصوتية.
فنحن نستهلك العنف اللفظي يوميًا، ونصنعه حين نغضب، ونضحك عليه حين نسمعه من طفل صغير. هناك من يعتبره “عاديًا”، وهناك من يراه رجولة، والكارثة حين يتحول إلى ما يشبه “الهوية المحلية”.

والمصيبة الأكبر؟ حين نبدأ في تصدير هذه “الثقافة” عبر اليوتيوب والتيك توك، ونفاخر بها: “شوفو كيفاش كيعايرو عندنا!”

خلاصة الشتيمة:

في مغرب اليوم، الكلام الخايب صار مثل البلاستيك: في كل مكان، يلوّث الأذن والروح، لكنه مقاوم لأي عملية تدوير.
قد نحتاج إلى قانون؟ نعم.
قد نحتاج إلى توعية؟ أكيد.
لكن قبل كل شيء، نحتاج إلى “ثورة لغوية”، حيث تعود الكلمة الطيبة إلى شوارعنا، وتختفي عبارة “والله حتى نتعرى عليك!” من قاموسنا اليومي.

فمن المؤسف أن تصير أقذر الكلمات هي الأعلى تداولًا، بينما تختفي عبارات الاحترام في طي النسيان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.