الكيف بين الرومية والبلدية: فلاح ينتظر… ومدينة تُشرّع التخريب!
وحين تتحضن البذور ويتكاثر النواب من تحت الدخان!

ضربة قلم
في مشهد هجين من التناقضات، يعيش مزارعو القنب الهندي المقنن بالمغرب لحظة ترقب حذرة، أشبه بانتظار هطول المطر في موسم الجفاف. فبينما هم يوشكون على إتمام زراعة “النبتة البلدية” التي ورثوها أبًا عن جد، بأيدي متجذرة في الأرض كما الجذور نفسها، ينتظرون بفارغ الصبر وصول البذور “الرومية”، تلك المستوردة بعناية ومختومة بإذن الدولة، والمحمولة على أكتاف حلم جديد اسمه “التقنين”.
هؤلاء الفلاحون الذين خبروا التربة، والمناخ، وأسرار “الكيف” منذ أجيال، وجدوا أنفسهم فجأة وجهاً لوجه مع منظومة زراعية جديدة لا تَدين لهم بشيء، لا بلغتها، ولا بإيقاعها، ولا حتى بمناخها البيروقراطي. ومع اقتراب نهاية أبريل، الموعد الحاسم لعملية تحضين هذه البذور، يسود شعور بالقلق بين المزارعين. ليس فقط لأن التأخير في التحضين قد يهدد نجاح الموسم الزراعي، بل لأن الزمن في التقنين لا يبدو منسجماً مع الزمن الحقيقي للقرى، ولا مع زمن الأرض.
ما بين الكيلوغرام الواحد من البذور المستوردة الذي يُعرض بـ150 درهماً، وما بين عشرات الهكتارات التي تنتظر الشتلات بفارغ الصبر، تنكشف خيوط معقدة من علاقة جديدة بين الفلاح والدولة، بين التراث والمختبر، بين “البلدية” و”الرومية”، بين المعهود والمفروض. إنها ليست فقط بذوراً جديدة تزرع، بل منظومة كاملة تُغرس قسراً في مجتمع لم يتهيأ لها لا تقنياً، ولا اقتصادياً، ولا نفسياً.
لكن هذا المشهد الفلاحي لا يكتمل دون النظر إلى الوجه الآخر من العملة: المدينة. فهناك، بعيدًا عن الحقول، يُروّج نفس “الكيف”، لكن في صورته السوداء، غير المقننة، تلك التي تخرّب العقول وتُطوِّع الجيوب وتُعيد تشكيل شبكات النفوذ. في المدن، “الكيف” لا يُزرع، بل يُستزرع، لا يُنتج، بل يُهرب، يُباع ويُشترى، ويُحوَّل إلى عملة سياسية، ورافعة انتخابية في بعض الأوساط.
مفارقة عجيبة أن الدولة نفسها التي شرعنت زراعة القنب الهندي لأهداف طبية وصناعية، تجد نفسها عاجزة عن ضبط سوقه الموازية، بل وتُشاهد بعض من امتهنوا الاتجار به سابقاً وهم يترشحون للبرلمان، يصفق لهم الناخبون، وتُفتح لهم القنوات، في حين يُحاصر المزارع الصغير بالبروتوكولات، وبالتأخر، وبالقلق. من يعيد له طمأنينة الموسم، وضمانة الشراء، وثمن المحصول؟ من يحميه من الذئاب الذين تحوّلوا إلى “مستثمرين” بلغة مقننة؟
هي قصة مقلوبة. فيها يتحول الكيف من مادة اتهام إلى ورقة اعتماد. يتحول البائع السابق إلى مشرّع لاحق. ويصبح الفلاح الذي تعب طيلة عقود بين الجبل والسفح مجرد مُنفّذ، في مسرح كبير لا يعرف المخرج ولا النص، لكنه يعرف جيدًا من يدفع الثمن.
إننا نعيش لحظة مفصلية، لا في تاريخ نبتة فقط، بل في تاريخ علاقة الدولة بالفلاح، بالمناطق المعنية، بالاقتصاد غير المهيكل. فإما أن يكون التقنين بداية إصلاح حقيقي يعيد الاعتبار إلى مناطق كانت دومًا على الهامش، أو يكون مجرد واجهة براقة لاقتصاد ظلّي جديد، تستفيد منه أقلية جديدة تُحسن الحديث بالفرنسية، وتوقيع العقود، وقراءة التشريعات على هواها.
كل شيء في هذه القصة ينذر بأن “التحضين” ليس فقط للبذور، بل لتجربة اجتماعية وزراعية جديدة. تحضين لواقع يحاول أن يولد، لكنه لا يعرف بعد من سيُرضعه، ومن سيقتله قبل أن يكبر. والمزارع المسكين، كعادته، يُترك بين الترقب والريبة، بين الرومية والبلدية، بين التقنين والتخمين.