مجتمع

المتاجرون بهموم عباد الله: حين يتحول الوجع إلى صفقة، والنضال إلى مهنة حرة

ضربة قلم

في الزمن الذي أصبح فيه الصدق نادراً كالذهب الحقيقي، برز نوع جديد من البشر: المتاجرون بهموم عباد الله. أولئك الذين يمتهنون المصائب، ويحوّلون أنين الناس إلى رأسمال رمزي، يدخّروه في حساباتهم عند كل مناسبة، أو موسم انتخابي، أو موجة غضب شعبي، أو حتى في تعليقات فايسبوكية يتوسّلون بها تفاعلاً يقوّي خوارزمياتهم المترهلة.

يصرخون بأوجاع الناس كما يصرخ بائعو الأعشاب في الأسواق: “هذا ألم المزاليط، من يريد أن يشتري؟”
تراهم في الوقفات الاحتجاجية يتقدمون الصفوف، يضبطون “الفوتوغينيا” بدقة، يختارون الزاوية، يرفعون شعاراً واحداً فقط: “صوّرني وأنا أصرخ”.
يضعون أيديهم على قلوبهم أمام الكاميرا، وعيونهم على الميكروفون، ولسان حالهم يقول: “أنا هنا من أجل الشعب… ولكن لا تنسوا منشن الصفحة الرسمية!”

هم لا يغضبون حين تجوّع الشعوب، ولا حين تنهار الخدمات، ولا حين يُطحن الكادحون في طواحين البؤس اليومي. يغضبون فقط إن لم تُوجّه إليهم دعوة للمشاركة في حوار تلفزيوني، أو إن لم يظهر اسمهم في بيان تنديدي يتصدره الهاشتاغ.

يا سادة، لسنا أغبياء. نعرفهم. نعرفهم واحداً واحداً، بالأسماء، وبالألقاب، وبعدد المرات التي غيّروا فيها مواقفهم وجلدهم السياسي كما يغيّر الثعبان قشرته. كانوا بالأمس مع السلطة، واليوم يدّعون أنهم ضدها، فقط لأنهم لم يُمنحوا فتاتاً من فتات امتيازاتها. إنهم صيادو الفرص الصغيرة، أولئك الذين يقيمون طقوس النضال عندما تضعف السلطة، ويعودون إلى كنفها عندما توزّع رخص الصمت والتطبيل.

في هذا البلد -ويا للسخرية- لا فرق كبير أحياناً بين من يسرق المال العام باسم التنمية، ومن يسرق مشاعر الناس باسم النضال. الاثنان ينهشون من الجسد نفسه، ويتلذذون بأكل أحلام البسطاء وهم يبتسمون أمام العدسات.

وهل تظنونهم يحزنون حقاً على فقراء هذا الوطن؟
كلا والله. هم فقط يستعملون صورهم، قصصهم، صراخهم، كخلفية درامية لمونولوج طويل من التلميع الذاتي. يكتبون التدوينة، يضعون صورة “فقير بملامح حزينة”، ويختمونها بجملة:
“أنا كنت هناك، لأنني لا أحتمل الظلم”.
بينما الحقيقة أنهم لا يحتملون أن يفوتهم دور البطولة.

نعم، هم يمثلون. على مسرح الوطن المكسور، يتقمصون دور المناضل، ويلبسون قناع الهمّ العام، بينما في الكواليس، يتقاضون أتعابهم من كل الجهات. ومن يدفع أكثر، يحظى بولاء أطول.
هم مع الشعب؟ فقط إن دفع الشعب أكثر من المخزن!

أما عن الوجع الحقيقي، عن الأم التي لا تجد ما تسد به رمق أولادها، عن الشيخ الذي يبيع المناديل في الزاوية، عن الشاب الذي مات في عرض البحر، أو الذي احترق وهو يبحث عن تأشيرة… فهؤلاء لا يدخلون في حسابات الصفقة. هؤلاء لا صوت لهم، لأنهم لا يُدرّون أرباحاً سياسية أو شعبية.

وإذا قلت لهم: كفى استغلالاً لأحزاننا، أجابوك بوقاحة شاعرٍ مزيف:
“أنا لستُ إلا صدى صوتكم.”
والحقيقة أنهم ليسوا سوى صدى لصناديق الدعم الخارجي، أو لقرارات التصعيد المفبركة، أو لمناورات غرف مغلقة نعرفها جيداً.

وفي النهاية، يعودون إلى بيوتهم الواسعة، يفتحون حواسيبهم الفاخرة، ويكتبون:
“أنا أناضل من قلب المعاناة.”
ولا ينسون أن يرفقوا التدوينة بصورة جديدة مع الضحية التالية… ضحية لا تعرف أنها مجرد “محتوى”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.