مجتمع

المتصرفون التربويون يقرعون الجرس الأخير: لا إصلاح فوق أشلاء الكرامة

ضربة قلم

في زمن يتباهى فيه الخطاب الرسمي بـ”خارطة طريق للإصلاح التربوي” و”مدرسة الجودة والإنصاف”، تُسمع من العمق التربوي للمؤسسات صرخة فئة اختارت أن تُرفع عن الظل، وأن تقول: “كفى!”.
إنه صوت المتصرفين التربويين، أولئك الجنود المجهولين الذين ظلوا لعقود يحمون المدرسة العمومية من الانهيار الكامل، دون أن يجنوا من الدولة سوى الصمت، ومن الوزارة سوى التهميش، ومن السياسات سوى الجحود.
اليوم، لم يعد في وسعهم سوى التصعيد.
تصعيد لا رغبة فيه… بل ضرورة دفاعية
حين تعلن النقابة الوطنية للمتصرفين التربويين عن مقاطعة شاملة لمشاريع الوزارة، وفي مقدمتها “مشروع المؤسسة المندمج” و”مؤسسات الريادة”، فهي لا تفعل ذلك حبًا في “التمرد”، بل لأن الصمت صار خيانة، ولأن التجاوب مع مبادرات لا تؤمن بالفاعل ولا تراعي الحد الأدنى من الكرامة المهنية، يُعدّ مشاركة في خدعة جماعية تُمارَس على المدرسة المغربية.
هذا الإضراب الإداري هو ترجمة عملية لشعار بسيط: لا إصلاح يُبنى على أنقاض التهميش، ولا مشروع مؤسساتي يمكن أن ينجح حين يُقصى من صناعته من يُفترض أنهم عقل المؤسسة ومدبر شؤونها اليومية.
وزارة لا تُصغي… وحكومة تتفرج
بينما يلهث الخطاب الرسمي خلف شعارات “المقاربة التشاركية” و”الحوار الاجتماعي”، تكشف الوقائع اليومية عن وزارة تغلق أبوابها في وجه الفئات الأساسية داخل المنظومة، وتحاور من تريد، متى تشاء، وكيفما تشاء. فأن يُقصى المتصرف التربوي من مناقشة نصوص تنظيمية ستمس صميم مهامه وهويته المهنية، هو تجسيد فجّ للعقلية الإدارية القديمة، عقلية الوصاية والاحتكار والانفراد.
وأن تبقى الحكومة صامتة أمام هذا النزيف، فهو مؤشر خطير على أن معركة إصلاح التعليم تُدار بعيدًا عن المؤسسات الدستورية، وبعقلية “نحن نقرر، وأنتم تنفذون”.
لا كرامة داخل مقصورة الإقصاء
إن سياسة الإقصاء والتهميش التي تطال المتصرفين التربويين لا تنعكس فقط على وضعهم المهني، بل تنسف الثقة الجماعية داخل المدرسة العمومية. فكيف نطلب من هؤلاء المتصرفين أن يقودوا مشاريع الإصلاح وهم مهمشون في صياغتها؟ كيف يُطلب منهم التعبئة والتأطير، بينما يتم التنكر لحقوقهم، وتُمنح صلاحياتهم لأطراف أخرى في مشهد سريالي لا يحترم لا مبدأ التخصص، ولا مقومات الحكامة؟
إن غياب نظام أساسي خاص وعادل لفئة المتصرفين التربويين لا يُعد فقط ظلمًا إداريًا، بل خطأً استراتيجيًا سيدفع ثمنه التلميذ المغربي، لأن المدرسة لا تقوم فقط على المناهج، بل على من يديرون اليومي المدرسي بكفاءة وصبر.
منطق الابتزاز وتكميم الأفواه
لم تكتف بعض المديريات الإقليمية بالصمت والتجاهل، بل تمادت في استعمال أساليب رديئة من الترهيب والضغط على المناضلين، في محاولات مكشوفة لتطويق الفعل النقابي واغتيال حرية التعبير. من سيدي قاسم إلى فاس، ومن تاونات إلى الناظور، يتكرر السيناريو ذاته: استدعاءات مبطنة، تهديدات ضمنية، وتلويح بعقوبات تعسفية… وكأننا لسنا في مغرب ما بعد دستور 2011.
لكن ما لم تفهمه هذه العقليات هو أن المتصرف التربوي اليوم لم يعد ذلك الموظف الذي يكتفي بالانضباط الصامت، بل بات فاعلاً واعيًا بحقوقه، مدججًا بالحجج، ومتمسكًا بكرامته قبل كل شيء.
لا إصلاح بلا شراكة… ولا شراكة دون احترام
إن الإصرار على تمرير نصوص تنظيمية بعيدة عن هموم المتصرفين التربويين، وبمعزل عن مساهمتهم، هو نوع من التلاعب بمسار الإصلاح نفسه. فحين تتحول النصوص إلى تفصيل على مقاس شبكات مصالح ضيقة، وتُقبر فكرة “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، ويتحول التدبير إلى لعبة توازنات بين نقابات وأطراف متنفذة، حينها لن نكون أمام إصلاح… بل أمام مهزلة.
نعم، من حق الوزارة أن تحلم بمنظومة تربوية أكثر نجاعة، لكنها إن أرادت لذلك الحلم أن يصبح مشروعًا واقعيًا، فعليها أن تبدأ من بديهيات: إشراك الفاعل، احترام الكفاءة، وضمان العدالة المهنية.
القلب النابض للمدرسة العمومية
لنتوقف لحظة: من الذي يدبر شؤون المؤسسة؟ من الذي يتعامل يوميًا مع الشركاء، الآباء، الإدارات، المفتشين، الشركاء المحليين؟ من الذي يُلزم بتقارير، وبرامج، ومشاريع، ويُحاسب على نسب الإنجاز والجودة والانخراط؟ إنه المتصرف التربوي.
فكيف لعقل المدرسة أن يُهان، وأن يُطلب منه في الوقت ذاته أن يُبدع ويجدد ويقود الإصلاح؟
خاتمة: لا رجعة عن الكرامة
ما تقوم به نقابة المتصرفين التربويين اليوم ليس مجرد احتجاج، بل معركة كرامة ووضوح وصدق. هي تذكير بأن الإصلاح لا يمكن أن يكون فوقيًّا، ولا يمكن أن ينجح إن لم يحتضنه من هم في الميدان، على الأرض، في التفاصيل.
لقد انتهى زمن الشعارات… وجاء زمن الحقيقة. والحقيقة تقول:
لا مدرسة عمومية قوية بدون متصرف تربوي مُمكّن، محترم، ومشارك.
وإلى أن يتحقق ذلك، فالصمت خيانة، والتخاذل تواطؤ، والاستمرار في هذا النهج… انتحار تربوي معلن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.