المتقاعدون بين رقم التأجير وذكريات المهنة

ضربة قلم
حين يتقاعد الإنسان في بلدان أخرى، تُعزف له موسيقى الوداع، تُمنح له شهادة تقدير، وتُكتب في الصحف مقالة تشكر “رحلة عطائه”. أما عندنا، فغالبًا ما يُختزل المشهد في جملةٍ قصيرة: “دّز الملف ديالك للصندوق، وسير ترتاح”.
الراحة؟ أي راحة تلك التي تتحدثون عنها؟
الراحة لا تكون حين يفقد الإنسان اسمه ويُستبدل برقم التأجير، حين يُصبح مجرد رقم في نظام التقاعد يُصرف له “المعاش” كل شهر دون أن يُسأل عن حاله، دون أن تُستثمر خبرته، دون أن يشعر أن السنوات التي أفناها بين الجدران أو المكاتب أو الورش لم تذهب سدى.
كم من أستاذٍ قضى عمره يُعلّم الأجيال، واليوم يجلس على كرسي في مقهى الحي يتبادل النكات المُرّة عن معاشٍ لا يساوي حتى نصف راتب من بدأ حياته المهنية أمس.
كم من موظفٍ متقاعدٍ يظل يزور مكان عمله القديم بين الحين والآخر، فقط ليشعر أن هناك من يتذكره، أن اسمه لم يُمحَ من الذاكرة الإدارية.
كم من عسكري أو رجل أمن سابق ما زال يستيقظ في نفس الساعة، يلمع حذاءه، ثم يجلس أمام التلفاز، لأن النظام الذي عاش به أربعين سنة لا يفارقه، بينما الحياة من حوله لم تترك له مكانًا.
يُعامل المتقاعد عندنا وكأنه “خارج الخدمة”، في حين أن المجتمعات الذكية تعتبر المتقاعد “خزان خبرة”. في اليابان مثلًا، يُستدعى المتقاعد لتدريب الأجيال الجديدة، وفي فرنسا تُفتح له فضاءات للعمل الجزئي، بينما في بلداننا يُقال له: “بارَكْ، خْوّي البلاصة للشباب”.
لكن أي شباب؟ الشباب الذين يحتاجون أصلاً إلى من يُرشدهم؟
النسيان هو أقسى أنواع الإهانة.
ليس الفقر وحده ما يقتل المتقاعد، بل الشعور بأنه أصبح “زائدًا عن الحاجة”. يمر في الإدارات، فلا أحد يحييه باسمه، بل يُخاطب بـ: “عطيني رقم التأجير”.
تختزل الدولة حياته كلها – من أول توقيع إلى آخر توقيع – في رقم.
رقم لا يضحك، لا يتعب، لا يشيخ، لكنه أيضًا لا يشعر.
ربما كان على مؤسساتنا أن تُعيد النظر في علاقتها بهذه الفئة:
أن تُكرّمهم في الحياة، لا بعد الوفاة.
أن تُعطيهم فرصة لنقل التجربة بدل أن تُرمي في سلة الماضي.
أن تُدرّس قصصهم للأجيال الجديدة كدروس في الوفاء والمثابرة، لا كذكريات في نشرات الأخبار عند وفاتهم.
فالمتقاعد ليس “متقاعدًا” من الحياة، بل من الوظيفة فقط.
هو ما زال إنسانًا يملك العقل والخبرة والذاكرة، وربما الحنين أيضًا.
السؤال الذي يجب أن يُطرح بجرأة هو:
من يكرّم هؤلاء؟ الدولة أم النسيان؟
ومن يعيد لهم الاسم بدل الرقم؟
لأن الأوطان التي تنسى من بنوها، تُصبح بدورها مرشّحة للتقاعد المبكر من الإنسانية.





https://shorturl.fm/bB32e