مجتمع

“المجرم بالفطرة”: بين حيلة اليد ودهاء الغريزة – قراءة في آراء علم الإجرام

ضربة قلم

في عالم يتأرجح بين الصدفة والقصد، وبين المحيط والذات، تقف شخصية “المجرم بالفطرة” كعقدة نفسية وسوسيولوجية تثير جدل خبراء علم الإجرام منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم. فهل يولد الإنسان مجرمًا؟ أم أن الجريمة سلوك مكتسب يتجذر في بؤس النشأة واختلالات المجتمع؟ وكيف نفسر حالات أولئك الذين يبدون كما لو أن الجريمة تسري في عروقهم كما يسري الدم، دون حاجة لظرف ضاغط أو مبرر واضح؟

من هو “المجرم بالفطرة”؟
في أدبيات علم الإجرام، يُقصد بالمجرم بالفطرة ذلك الشخص الذي يميل إلى ارتكاب أفعال جرمية بشكل شبه تلقائي، وكأن سلوكه الإجرامي هو استجابة “طبيعية” أو نمط معيشي لا يخرج عن عاداته اليومية. هو شخص “قليل الحيلة” بمعناها السوسيولوجي، لا يمتلك أدوات النجاح أو التفاوض أو التأقلم، فيلجأ إلى “حيلة اليد” ودهاء الغريزة ليضمن البقاء في عالم يبدو وكأنه لم يُخلَق له.

لمحة من التاريخ: لمبروزو وبذور النظرية البيولوجية
يعود الفضل في إدخال مفهوم “المجرم بالفطرة” إلى عالم الجريمة للباحث الإيطالي سيزار لومبروزو، الذي اعتقد أن هناك سمات فيزيولوجية محددة تميز المجرمين عن غيرهم، كأن تكون لهم فكوك بارزة أو جباه مائلة أو أنوف عريضة. رأى لومبروزو في الجريمة إرثًا بيولوجيًا أشبه بـ”رجعة إلى الوراء” في سلم التطور البشري.

ورغم أن نظريته البيولوجية تعرضت لنقد شديد في الأوساط العلمية الحديثة، فإنها فتحت الباب لتساؤلات عميقة حول مدى تأثير الوراثة، أو تركيبة الدماغ، أو اضطرابات الشخصية في إنتاج نمط إجرامي شبه غريزي.

الجريمة بوصفها غريزة البقاء
في المقابل، يذهب بعض علماء النفس المعاصرين إلى تفسير السلوك الإجرامي “الفطري” باعتباره تعبيرًا عن غريزة بقاء مغلّفة بالقسوة، تتفجر حين يجد الفرد نفسه في بيئة تفتقر للعدالة، أو حين يشعر بالخذلان من كل آليات الإنصاف الاجتماعية. فالمجرم هنا لا يسرق لأنه جشِع بالضرورة، بل لأنه لم يجد وسيلة أخرى ليضمن الحد الأدنى من الوجود، ولو بالتعدي على وجود الآخرين.

العامل الاجتماعي: المجرم ابن بيئته؟
يرى علماء الاجتماع أن المجرم بالفطرة ليس سوى ضحية متقدمة لظروف اجتماعية كارثية: فقر مزمن، تهميش، انعدام الحماية الأسرية، تفكك القيم، ومدارس تتحول إلى مصانع للعنف بدل أن تكون حواضن للتربية. وفق هذا المنظور، لا يُولد الإنسان مجرمًا، بل يُدفع إلى الجريمة دفعًا حتى تصبح جزءًا من تركيبته النفسية، ويعتاد على تقمص دور “الذئب” في غابة لا ترحم الضعفاء.

اضطرابات الشخصية: حين تُصبح الجريمة نمط حياة
في علم النفس السريري، تظهر فئة من المجرمين ممن يعانون اضطرابات عميقة في الشخصية، وعلى رأسها اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (Anti-social Personality Disorder)، وهي حالة لا يشعر فيها الفرد بالندم، ولا بالذنب، ويجد متعة في التلاعب أو إيذاء الآخرين. هؤلاء لا يخططون للجريمة بدقة كما يفعل “العباقرة الأشرار”، لكنهم أيضًا لا يرتكبونها اضطرارًا… إنها جزء من هويتهم النفسية.

الطفل المجرم: حين تولد اليد خفيفة
من المشاهد التي تصدم المربين والشرطة والمجتمع معًا، تلك التي تتعلق بأطفال صغار يعمدون إلى السرقة أو العنف أو التدمير وكأن الأمر لا يتعدى لعبة. هؤلاء هم النموذج الأولي للمجرم بالفطرة، أو على الأقل لمن بدأت ملامح الانحراف تظهر عليه مبكرًا. ويجمع علماء النفس التربوي أن هذا “الانحراف المبكر” غالبًا ما يكون نداء استغاثة غير منطوق، تعبيرًا عن حاجة ماسة للحب، للانتباه، أو للشعور بالوجود.

بين الحيلة والفطرة: هل من أمل في الإصلاح؟
مهما بلغ الشخص من “فطرية” في إجرامه، يرى كثير من الخبراء أن الباب لا يُغلق أبدًا أمام الإصلاح. بشرط أن يُفهم الجاني، لا أن يُلعن فقط. أن يُعامَل ككائن مأزوم قبل أن يُعامَل كمجرم، وأن تُفكك ميكانيزمات الجريمة داخله، كما تُفكك قنبلة موقوتة. فالسجون وحدها لا تصلح المجرمين، بل تعيد تدويرهم في سلسلة لا تنتهي. أما إعادة الدمج الحقيقي، فتمر عبر الفهم، ثم التأهيل، ثم الاحتواء.

خلاصة

ليس كل مجرم “شيطانًا من ورق”، وليس كل مجرم ضحية بالضرورة. لكن بين حيلة اليد وقلة الحيلة، وبين الغريزة والتنشئة، ينبت المجرم الفطري على هامش المجتمع، كصرخة ضد نظام لم يمنحه وسيلة للحياة بكرامة. إن فهم هذا النموذج الإجرامي لا يتطلب فقط قوانين صارمة، بل منظومة إنسانية قادرة على احتواء الصدع قبل أن يتحول إلى هاوية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.