المحمدية تُباع بالرصيف: عندما يُحتل الملك العام باسم الجشع وتُدفن كرامة المدينة تحت الطاولات!

ضربة قلم
يبدو أن الصورة التي بين أيدينا لا تحتاج إلى شرح كبير لتفك شيفرة ما يحدث في مدينة المحمدية، تلك المدينة التي كثيرًا ما يُنظر إليها باعتبارها “المدينة الهادئة”، بينما هي في الواقع تنام على إيقاع خروقات صارخة لا تخفى إلا على من أراد ألا يرى. إننا أمام مشهد فجّ وصارخ للتعدي على الملك العمومي، وتحديدًا في منطقة لا يفترض فيها أن يكون التغوّل بهذا الشكل: قرب ميناء الصيد البحري، حيث التاريخ والمعيش اليومي للبحّارة، وحيث يفترض أن يكون الفضاء العام مصونًا باعتباره جزءًا من كرامة الجماعة وسكانها.
ما نراه هنا ليس مجرد “استغلال للرصيف” كما قد يحاول البعض التهوين من شأنه. نحن أمام احتلال كلي للرصيف، واستيلاء بلا استحياء على جزء من الطريق العام، من طرف مستثمر يبدو أنه أدرك أن القانون في هذا الفضاء بات يطبَّق فقط على الضعفاء. رصيف بكامله تحوّل إلى امتداد لمطعم خاص، دون أن يرتجف لأصحابه جفن، أو يخطر ببالهم -ولو للحظة- أنهم يمارسون فعلاً عدائيًا ضد المجال العام، وضد المارة الذين يُدفعون دفعًا إلى النزول نحو الطريق، حيث الخطر الحقيقي.
في هذا الركن من المدينة، لم تعد سيادة القانون مرجعية، بل أصبحت الحكرة هي العنوان العريض للمرحلة. الحكرة، عندما تَحرمُ مواطنًا بسيطًا من كشك يبيع فيه الخبز تحت ذريعة “عدم الترخيص”، بينما تُترك مساحات ضخمة تُحتلُّ جهارًا نهارًا من طرف أصحاب المال والنفوذ، دون حتى مجرد تنبيه. الحكرة، عندما يكون “الحق في المدينة” حكرًا على فئة تعتبر نفسها فوق الجميع، وتتعامل مع الرصيف كأنه حديقة خاصة، ومع الشارع كأنه ملحق بملكيتها. إن هذا النوع من الممارسات لا يُمكن فهمه إلا في سياق عام من غياب المراقبة، وارتخاء قبضة الدولة في تطبيق القانون على الجميع بشكل عادل.
السكوت عن هذه الأفعال ليس مجرد تواطؤ صامت، بل هو تورط بنيوي في جريمة اغتصاب المجال العمومي. فمن سمح لهذا المطعم بأن يتجرأ إلى هذه الدرجة؟ من غض الطرف؟ من رفض تطبيق القانون؟ من تقاعس عن تحرير محضر مخالفة؟ وهل نحن في مدينة تحكمها المؤسسات والقانون، أم في مزرعة خاصة حيث يفعل كل ذي نفوذ ما يشاء؟
إن الأخطر في الأمر ليس فقط احتلال الرصيف، بل هذا الإحساس بالحصانة الذي يطفح من المشهد. فلو أتيح لصاحب هذا المشروع التمدد أكثر، لما تردد لحظة واحدة في احتلال الملك السماوي ذاته. إنها عقلية لا ترى في المدينة سوى فرصة للربح السريع، ولا تعبأ بأي اعتبار جمالي، اجتماعي، أو قانوني. عقلية تعكس بشكل فاضح تغوّل الرأسمال الريعي الذي لا يعرف إلا منطق التوسّع والهيمنة، حتى ولو على حساب أبسط الحقوق الجماعية.
ما نراه في هذه الصورة هو اختصار فجّ لفشل المنظومة المحلية في حماية الفضاء العام، واختزال ساطع للمعادلة المختلّة التي تحكم علاقة السلطة بالمواطن: سلطة تشتد فقط حين يكون المستهدف ضعيفًا، وتلين حين يكون المتعدّي من علية القوم أو ممن “لهم ظهر”. وهذا الوضع، إن استمر، لن يؤدي إلا إلى تكريس الإحساس باللاجدوى، وتفشي العبث، وفقدان الثقة في المؤسسات.
ربما آن الأوان لنقولها بصراحة: المحمدية، تُفرّط يومًا بعد يوم في الفضاء العمومي، لصالح طبقة لا تعترف إلا بمصالحها. هذه الصورة التي نراها ليست فقط “تشوهًا بصريًا”، بل هي تعبير عن اختلال بنيوي في تسيير الشأن المحلي، واستهتار سافر بحق الناس في مدينة تحفظ كرامتهم، لا تدوسها برجل طاولة أو كُرسي بلا حياء.
هل يكفي الغضب؟ بالتأكيد لا. لكن الغضب هو أول الطريق نحو المطالبة بالمحاسبة، والمساءلة، والضغط من أجل وضع حد لهذا العبث الذي إن تُرك يتمدد، لن يترك شيئًا اسمه “الملك العام”. هل من مجيب؟