مجتمع

المخزن الجديد: تهم مبتكرة وسيناريوهات محكمة، حيث السجون لا تفرغ أبدًا

محمد صابر

في الزمن الذي كان فيه المخزن يتصرف بعجرفة بدائية، كانت الأمور تُدار بكثير من العنف وقليل من الذكاء، فلا حاجة لمحاكمة ولا حتى تهمة محترمة، يكفي أن يُقال إن فلانًا “راسو سخون”، ليختفي فجأة من المشهد كما تُمحى كتابة على رمل البحر. أما اليوم، وقد دخلنا عصر “المخزن المُطور”، فلا بد من سيناريو مُتقن وإخراج احترافي، كأننا بصدد تصوير موسم جديد من مسلسل سياسي على طريقة هوليود، لكن بنسخة مغربية تعيش على الأعطاب البنيوية والتلفيقات الفجّة.

المخزن الجديد لا يختطف، بل يُخطط. لا يعذّب في الظلام، بل يُحرجك في وضح النهار. يفتح محضرًا منمقًا، ويجهّز ندوات صحفية إن لزم الأمر، ويجعل منك نكتة الموسم قبل أن يضعك خلف القضبان. لا مكان هنا لصفعات معتقلات الماضي، بل لصفعات معنوية تُصفق لها مواقع “الاستقلالية الموجهة”، وتنشرها “الصحف المستقلة جدًا” مع عناوين فيها أكثر من قوسين وتحقيقين وهميين.

في هذا الزمن البارد، لا أحد يُصفَّى جسديًا، بل يتم إعدامه اجتماعيًا أولًا، عبر سُبل مهينة فيها من الانحطاط ما يجعل حتى الضحية يشك في نفسه. تهم تُلفّق كما تُلفّ الحلوى في ورق مزخرف: هتك عرض، تحريض، تهديد الأمن العام، تبديد المال العام، ممارسة الشعوذة، التخابر مع المريخ… كل شيء ممكن في قاموس التهم الجاهزة. والأنكى، أن كل ملف يُصاغ بعناية فائقة ليظهر وكأنه حالة فريدة، بينما هو مجرّد نسخة مكرورة عن مئات من الحالات التي انتهت كلها إلى قاعات المحاكم، ثم إلى الزنازين.

وإذا كان هذا هو الوجه الرسمي، فخلفه يظهر الوجه الآخر: الواقع المعيشي. ليس فقط أنك تكون عُرضة للابتزاز السياسي أو الإعلامي، ولكنك تجد نفسك مكبلاً بالأعباء الاجتماعية والاقتصادية. ضغوط على صعيد العمل، مسائلة على صعيد الحقوق، وابتزاز يومي لا يتوقف. لأنهم لا يكتفون فقط بمضايقتك وخنقك مادياً، بل يحاصرونك من كل جانب، يطلبون منك أن تكون قويًا في وجه الفقر، صلبًا في مواجهة الجهل، وصامتًا في ظل الغموض. كأنك مجرد أداة يتم استخدامها لتمرير مصالحهم، بينما تتآكل هويتك شيئًا فشيئًا.

وهذا تمامًا كما يحدث عندما يعجزون عن إخضاعك بطريقة الترهيب، فيلجؤون إلى أساليب أخرى أكثر إهانة، حيث لا يكفي أن يضغطوا عليك من أجل المال أو الحقوق، بل يختلقوا لك الأزمات المالية ويسدّوا في وجهك كل أبواب العمل، ويُحاصرونك بالضغوط النفسية والاجتماعية حتى تكتشف أنك قد تحولت إلى شخص آخر، شخص لا يعرف كيف يحارب لكي يعيش بكرامة. يعطونك قشرة من الأمل، ثم يسحبونها منك، ليس فقط لتفقد سيطرتك على حياتك، بل لتشعر أنهم هم من يتحكمون في كل شيء: في مستقبلك، في شرفك، في مكانك داخل هذا النظام المريض.

ولأن المخزن لا يشتغل وحده، فهناك كومبارس الحكومة، أولئك الذين يسمّون أنفسهم “وزراء”، وهم في الواقع سكرتارية عليا للمخزن، تُشرعن وتُطبّع وتُحلّي القرارات المرة بوجه بشوش ونبرة “مواطِنة”. تراهم يخرجون لتفسير الفضيحة ببلاغ، ثم يختفون بعد أن يُنهي الشعب مهمته الأزلية في النسيان. أما الأحزاب، فحدث ولا حرج، بعضها يصفق، وبعضها ينتظر دوره في حفلة الجلد، وآخرون يُعدّون ملفات الخصوم ليكونوا أوفياء لتقليد “بّاك صاحبي” حتى في التوريط.

والضحايا؟ هم أناس يُحبّون هذا الوطن أكثر من اللزوم. ظنّوا أن الدستور فعلاً يضمن الحقوق، وأن القانون فوق الجميع، وأن السياسة يمكن أن تكون شريفة، فاستيقظوا ذات صباح على عناوين تُشهّر بهم، وبلاغات تُدينهم قبل أن ينطق القاضي، وأصوات تُطالب برؤوسهم لا لأنهم سرقوا، بل لأنهم لم يسرقوا بما فيه الكفاية أو لأنهم لم يسكتوا.

هكذا تُدار الأمور في مملكة تحب مسرحيات الواجهة، حيث كل شيء يبدو قانونيًا، لكن شيئًا واحدًا فقط لا يحدث: العدالة. وهنا نُصبح أمام سؤال وجودي: هل العدل مجرد ديكور في صالة الانتظار؟ أم أن هذه الدولة قد قررت فعلًا ألا تخجل من تكرار أخطائها القديمة، فقط بطريقة “مودرن”؟

في نهاية المطاف، اللهم إنا قد بلغنا، فاشهد.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.