المخزن والصحافة: حين يصبح الولاء أهم من الكفاءة

ضربة قلم
يبدو أن المخزن الجديد يتعامل مع الصحافة بنفس الحنكة التي يدير بها الشأن العام: خليط من الحذر، الانتقاء، والترويض الناعم. الصحافة في هذه البلاد ليست مجرد مهنة، بل هي حقل ألغام تتطلب مهارات خاصة: قدرة عالية على التوازن، حنجرة مرنة لترديد النشيد الرسمي عند اللزوم، ومخيلة خصبة قادرة على تحويل أخبار روتينية إلى إنجازات وطنية.
قبل يومين، التقينا بأحد هؤلاء الصحفيين المخزنيين، أو ربما المخزني الصحفي، لا فرق. مدير لمؤسسة إلكترونية تعتبر نفسها مرجعية في المهنة، رغم أنها بالكاد تجد من يقرأها خارج دائرة العاملين فيها والمقربين منهم، حيث تظل عناوينها تتردد في مكاتب مغلقة أكثر مما تصل إلى الجمهور الواسع.. كان الرجل قد مرّ بتجارب صحفية عدة، من صحيفة حزبية مكتوبة بلغة موليير، إلى موقع إلكتروني يحسب أيام السنة، وصولًا إلى قصر الإعلام الإلكتروني حيث يُدار الرأي العام بالريموت كونترول.
لكن دعونا نعود قليلاً إلى الوراء، حين لم يكن هذا المدير سوى صحفي شاب يقطن في غرفة ضيقة بحي شعبي، يتقاسم جدرانها مع مياومين. لم يكن وقتها يملك سوى قلمه وحنجرته، والأهم من ذلك، طموحاً جامحاً لا يحدّه سقف. كان يرى في الصحافة وسيلة للنضال، لكنه سرعان ما اكتشف أن النضال لا يؤدي إلى الترقية، بل إلى التقاعد المبكر.
المخزن لم يأتمنه على هذا المنصب لأنه الأكفأ، بل لأنه الأكثر وفاءً. الصحفي الحقيقي قد يراوغ، يناقش، يبحث عن الحقيقة، أما الصحفي المخزني فهو امتداد غير رسمي للبلاغات الرسمية. الفرق بينهما كالفرق بين فارس يخوض معركة بأفكاره، وجندي مطيع لا يتساءل عن جدوى المعركة أصلًا.
المعلم الذي أصبح صحفياً والمخزني الذي يدير مؤسسة
في لقائنا الأخير، حكى لنا صاحبنا عن قصة أخرى من قصص “الإعلام الموجه”، أبطالها هذه المرة صحفي مسؤول متقاعد من مؤسسة إعلامية متخصصة في توزيع الأخبار الرسمية، ورجل تعليم لا نعرف إن كان معلماً سابقاً أم شبحاً كان قد ظهر فجأة في المشهد الإعلامي.
هذا الثنائي، المعروف بولائه غير المشروط للمخزن، كان قد اختير لتسيير مؤسسة إعلامية جديدة، مدعومة برأس مال فلكي حُدّد في ملياري سنتيم. لكن، وكما هي العادة، لم تكن لهذه المؤسسة أي فرصة في النجاح، ولنا اليقين أنها كانت ستلقى نفس مصير بعض العناوين التي لا يقرأها سوى العاملون فيها أو التي تقتنيها الإدارات فقط لملء رفوف مكاتبها.
الغريب في القصة أن صاحبنا نفسه كان مرشحاً لمنصب المدير التحريري لهذا المشروع، واستلم نصف راتب طيلة بضعة أشهر قبل أن يُلغى المشروع فجأة. لكن الرجل خرج من هذه التجربة بجائزة ترضية: كومبيوتر من علامة “تفاح”، رفض إرجاعه لأنه كان يعرف أن الأمر لن ينتهي عند ” أصحاب الحال/ الممولين”، بل عند ذلك المعلم الذي أصبح صحفياً بقوة الانتماء الحزبي.
هكذا تسير الأمور في “إعلام الولاء”، حيث المؤسسات تولد بتمويلات ضخمة وتموت في صمت، والصحفيون المخزنيون يتنقلون بين المناصب وفق معادلة لا علاقة لها بالكفاءة. ويبقى السؤال: هل نحن أمام مهنة الصحافة، أم مجرد توزيع أدوار في مسرحية يُعاد إخراجها مع كل مرحلة؟