المغاربة تحت المطر… نهر بشري يجدد العهد مع غزة ويصرخ في وجه التطبيع

ضربة قلم
رغم السماء الملبدة بالغيوم، ورغم زخات المطر التي أغرقت الشوارع والساحات، خرجت الرباط اليوم الأحد عن بكرة أبيها، لتحتضن واحدة من أضخم المسيرات الشعبية التي عرفتها العاصمة في الشهور الأخيرة. عشرات الآلاف من المواطنات والمواطنين، جاؤوا من مختلف جهات المغرب، رجالاً ونساءً، شباباً وكهولاً، حاملين قضيتهم في قلوبهم وأصواتهم، متوشحين بدموع الغضب ورايات التضامن، هاتفين من عمق الألم: “كلنا غزة… لا للتطبيع… فلسطين أمانة”.
كانت المسيرة أكثر من مجرد حشد؛ كانت فعلَ مقاومة رمزية من أرض المغرب، من أقصى الغرب العربي، إلى غزة الصامدة في أقصى الشرق، حيث تستمر آلة الحرب الإسرائيلية في سحق الحياة بلا رحمة منذ أكثر من عام ونصف. وبينما تُطوى صفحات المأساة على وقع المجازر والقصف والتجويع، يصطف المغاربة في رباط الكلمة والموقف، ليقولوا للعالم إن القضية لم تمت، وإن الذاكرة لم تُطمس، وإن الضمير ما يزال حيًّا.
أولى هذه الرسائل كانت تحية إجلال وإكبار لمقاومي غزة، أولئك الذين وقفوا عُزّلاً في وجه واحدة من أعتى الترسانات الحربية، وأصرّوا أن يموتوا واقفين. كانت الهتافات لا تنقطع: “يا شهيد ارتاح ارتاح.. سنواصل الكفاح”، و*”المقاومة خيارنا.. والبندقية شعارنا”*، وكأن الجموع أرادت أن تكون صدى لصوت المقاتل الذي يحرس الأزقة المحاصرة برشاشه الصدئ، ويقاوم الحصار بكسرة خبز وأمل لا ينكسر.
ثاني هذه الرسائل كانت إلى الداخل المغربي: إلى أولئك الذين يراهنون على النسيان، وعلى تطبيعٍ باردٍ لا جذور له في وجدان الناس. كانت شعارات رفض التطبيع تتكرر وتتصاعد، بينما الأعلام الإسرائيلية تُحرق أمام عدسات الكاميرات، في مشهد رمزي لا يخلو من دلالة قوية: “لا مكان للكيان الصهيوني في قلوبنا، ولن يتحول الظلم إلى أمر عادي مهما سوّقه الإعلام أو روّجت له بعض الأطراف السياسية”.
الحضور البارز لرموز سياسية وحقوقية، من مختلف الأطياف والانتماءات، منح المسيرة عمقًا إضافيًا. فالرسالة هنا لم تكن حزبية أو أيديولوجية ضيقة، بل كانت رسالة وطنية، جامعة، يتوحد فيها اليساري مع الإسلامي، والمدني مع النقابي، والمواطن البسيط مع المثقف، تحت لواء واحد: فلسطين حرة من النهر إلى البحر.
الأمطار لم تشتت الحشود، بل زادتها عزيمة. كأن الغيث الذي بلل الأجساد أنبت في القلوب مزيداً من الوعي والانتماء، ومزيداً من الإصرار على ألا تمر هذه اللحظة كما مرت غيرها. كان الحضور المهيب بمثابة استفتاء شعبي صامت على موقف المغاربة الحقيقي من القضية الفلسطينية، وعلى رفضهم الصارم لأي مقايضة بين المبادئ والمصالح.
في نهاية المسيرة، وقبل أن يتفرق الجمع، رُفعت الأكف بالدعاء، وسُمع صوتٌ يهتف بصوت متهدج: “اللهم إن غزة جريحة، فكن لها معيناً ونصيراً، وأرنا في المحتلين يوماً أسوداً كما أرونا الأيام حبلى بالدم والنار”.
وإن كانت المسيرات لا توقف الحروب، فإنها توقظ الضمائر، وتحمي الشعوب من خدر التبلد.
والمغاربة، كما أكدوا اليوم، لم ينسوا ولن ينسوا… ففلسطين ليست جغرافيا فقط، بل وجدان وهوية.