سياسةمجتمع

المغاربة تغيروا، والعالم تغيّر، لكن خطاب السياسي لم يتغير

ضربة قلم

لن نتحدث اليوم عن جيل “زد” ولا عن ثوراته الرقمية، بل عن جيلٍ أعمق ذاكرة وأشد وجعًا… جيل الخمسينيات والستينيات، أولئك الذين شاهدوا المغرب وهو يخطو من زمن “المخزن الصارم” إلى زمن “المخزن المبتسم”، ومن عهد الخطابات الحماسية إلى زمن الشعارات المصقولة في المؤتمرات الفندقية.
إنه جيل عاش كل شيء: من المد القومي إلى المد البنكي، من المقاومة إلى التقشف، من إذاعة “هنا الرباط” إلى “بودكاست الحكومة”. جيلٌ لم يعد يندهش من شيء، لأنه رأى كل الوجوه تتبدل إلا السياسات نفسها.

برلمان أم مسرح؟

حين يجلس أحد مواليد الستينيات أمام التلفاز ليشاهد جلسات البرلمان، فهو لا يرى “نواب الأمة”، بل يرى فرقة تمثيلية تؤدي أدوارها بمهارة متوسطة ونصّ محفوظ سلفًا.
يتحدث هذا النائب، يردّ ذاك الوزير، يصفّق أولئك الجالسون في الصفوف الخلفية، ثم تُرفع الجلسة، ويُرفع معها الأمل في أي إصلاح حقيقي.

الجيل الذي شاهد التناوب السياسي بكل تفاصيله يعرف جيدًا أن المعارضة عندنا مثل المسرحية التي تُعرض في فصلين: في الفصل الأول تصرخ ضد الفساد، وفي الفصل الثاني تصبح جزءًا منه. فكم من حزبٍ رفع شعار التغيير، ثم حين جلس على الكراسي الوثيرة، غيّر الشعار بدل الواقع!

تكلفة “العايقين”

الجيل الذي عاش زمن الكدّ والشقاء، يعرف بالضبط كم يكلف “الناس العايقين” خزينة الدولة. وزراء، كتاب دولة… كلهم يتقاعدون بأرقام فلكية، تُصرف من ضرائب أناس لا يجدون حتى دواء الضغط أو وسيلة نقل كريمة.
هؤلاء السياسيون القدامى يتحدثون عن “الإصلاح”، لكنهم أول من يرفض إصلاح معاشاتهم. أي منطقٍ يجعل موظفًا بسيطًا يخدم 40 سنة ليحصل على الفتات، بينما وزيرٌ لم يجلس سوى بضع سنوات على كرسي وثير، يُكافأ مدى الحياة براتب يفوق أحلام من صوتوا له؟

جيل لا ينسى الوجوه ولا الأقوال

الجميل في هذا الجيل أنه لا يُخدع بسهولة، فهو يعرف تاريخ كل سياسي خرج من عباءة حزب ودخل أخرى. يعرف من كان يهاجم الحكومة بالأمس وأصبح اليوم ناطقًا باسمها.
إنه جيلٌ حفظ خطاباتهم عن ظهر قلب، من اليسار الذي صار يمينًا، إلى الليبرالي الذي صار يساريًّا عند اللزوم. جيلٌ يُشاهد هذا المشهد السياسي المتقلب ويقول بمرارة:

“مشينا بدّلنا الطبق، ماشي الماكلة.”

جيل بصيرة لا بصوت

المؤلم أن هذا الجيل، رغم وعيه وتجربته، صار يشعر بالتهميش السياسي. فالأحزاب اليوم تراهن على “الشباب” كشعار لا كمشروع، بينما تهمّش أصحاب الذاكرة الطويلة الذين يعرفون خبايا اللعبة.
هذا الجيل الذي بنى الوطن بالعرق والدموع، يقف اليوم على هامش المشهد، يراقب من بعيد، ويبتسم بمرارة وهو يسمع وعودًا تشبه الوعود القديمة.

الخلاصة: السياسة التي لم تنضج بعد

ربما المشكلة ليست في الجيل، بل في السياسة نفسها التي لم تنضج بعد. فالمغاربة تغيروا، والعالم تغيّر، لكن خطاب السياسي لم يتغير.
جيل الخمسينيات والستينيات لم يعد يطلب المعجزات، فقط يطلب قليلاً من الصدق، قليلاً من المحاسبة، وكثيرًا من احترام ذاكرة وطنٍ تعب من الوجوه ذاتها والشعارات ذاتها.

ويبقى السؤال معلقًا في المقاهي والبيوت والقلوب:

هل البرلمان مؤسسة للتشريع أم خشبة لعرض المسرحيات السياسية الطويلة التي لا تنتهي؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.