رياضةسياسة

المغاربة… شعب محروم من الفرح

ضربة قلم

حين يُقال إن كرة القدم «أفيون الشعوب»، قد يبدو الوصف قاسياً للوهلة الأولى، لكنه في المغرب يأخذ معنىً أكثر عمقاً، بل وأكثر صدقاً. فالمغاربة، الذين حُرموا من أبسط حقوقهم في الفرح، لم يجدوا في السنوات الأخيرة سوى المستديرة متنفساً جماعياً يعيد إليهم شيئاً من الأمل، ومن وحدة المشاعر التي فرّقتها السياسات وأرهقها الغلاء.

اليوم، وقبل صافرة بداية مباراة “صغار الأسود” ضد فرنسا، يعيش المغاربة حالة انتظار لا تُشبه سوى انتظار معجزة. فهؤلاء الأطفال الذين يحملون ألوان الوطن على أكتافهم، صاروا يمثلون ما فقده الناس في السياسة والتعليم والصحة والشغل: الصدق، والنية، والحلم.

حين يصبح النصر الكروي علاجاً وطنياً

في كل بيت، في المقاهي، في الأسواق وحتى في الحافلات، الجميع يتحدث عن المنتخب. لا لأنهم يجهلون أن الرياضة لا تُطعم خبزاً، بل لأنهم يدركون أن الانتصار، ولو في مباراة، يُعيد إليهم شيئاً من الكرامة المفقودة، ويمنحهم لحظة نادرة من الوحدة.
لقد جرّب المغاربة كل أشكال “الإصلاحات”: إصلاح التعليم الذي صار عبئاً على الأسر بدل أن يكون أفقاً لأبنائها، إصلاح الصحة التي لا تداوي إلا بالأمل، وإصلاح التشغيل الذي جعل من الشهادة الجامعية وثيقة بطالة فاخرة. لذلك، حين يُسجّل لاعب من صغار الأسود هدفاً في مرمى فرنسا، يشعر المغربي أنه انتصر على “المنظومة” بأكملها.

الفرح مؤجل… منذ عقود

منذ الاستقلال، والمغاربة يسمعون عن الازدهار القادم، وعن “المغرب الجديد” الذي سيكون في مستوى التطلعات. لكن الواقع كان يُسجّل خسارة تلو الأخرى: بطالة، فقر، فساد، ومحروقات تُشعل جيوب المواطنين قبل سياراتهم.
الحكومات المتعاقبة لم تفشل فقط في تحقيق التنمية، بل فشلت في منح الناس إحساساً بالأمان العاطفي والاجتماعي. فقد صار الفرح ترفاً لا يُتاح إلا في المناسبات الرياضية، وصار الهدف الكروي يعوّض عن هدف التنمية الغائب.

من الملعب إلى الشارع: جيل جديد لا يكتفي بالفرجة

ولأن الفرح لا يُورَّث بل يُنتزع، برز جيل جديد يرفض أن يعيش على الفُتات الرمزي من السعادة. جيل “زد 212” الذي اختار أن يقول “كفى”، ليس بالشتائم أو الغضب الأعمى، بل بصوت حضاري يطالب بالتغيير الحقيقي. هذا الجيل لم يعد يرى في المنتخب مجرد حلم مؤقت، بل رمزاً لوطن يمكن أن ينتصر إذا أُتيح له أن يلعب بشرف وعدل، كما يفعل الأطفال في الميدان.

جيل “زد 212” يختصر ما لم تستطع الحكومات أن تفهمه: أن الناس لا يريدون المعجزات، بل يريدون دولة تُعاملهم بالكرامة. يريدون مدرسة تُعلم، ومستشفى يُداوي، وفرصة عمل لا تمر عبر “باك صاحبي”. يريدون حياة لا يكون فيها الفرح مؤقتاً، ولا السعادة مشروطة بصفارة نهاية المباراة.

كرة القدم… المرآة التي تفضحنا

حين نرى المغاربة يلتفون حول المنتخب بكل أطيافهم، ندرك أن المشكل ليس في الشعب، بل في السياسات التي فرّقتهم. فالشعب الذي يتوحد خلف راية الوطن في الميدان قادر على أن يبني وطناً عظيماً في الواقع، لو أن من يسيرونه امتلكوا نصف روح التضامن التي تسكن المدرجات.
كرة القدم ليست تخديراً كما يُقال، بل هي المرآة التي تكشف كم نحن متعطشون للفرح، وكم نحن قادرون على الحب إن وُجد من يستحقه.

الفرح ليس جريمة

حين يفرح المغاربة بانتصار كروي، لا يفعلون ذلك لأنهم سذج أو “مخدَّرون” كما يدّعي البعض، بل لأنهم تعبوا من الحزن المزمن. لأنهم فقدوا الثقة في السياسيين، ووجدوا في الرياضيين مرآة نقية لوطن ممكن.
لكن، إلى متى سيظل الفرح مؤجلاً؟
إلى متى سنحتاج إلى مباراة كي نبتسم، أو إلى هدف كي نصدق أن هذا البلد ما زال حياً؟

الجواب عند من يملكون القرار، لا عند من يملكون القلوب.
أما نحن، فسنظل ننتظر الفرح، ولو في زمن البؤس، لأننا ببساطة… شعب يحب الحياة، حتى حين تُغلق في وجهه كل أبوابها.

حكومتنا الموقرة… تصنع الحزن بإتقان

أما حكومتنا الموقرة، فهي لا تُجيد إلا شيئاً واحداً: توزيع الكآبة بالتقسيط، ورفع الأسعار بالجملة. لا تعرف كيف تزرع الفرح، لكنها خبيرة في اقتلاع ما تبقّى منه. تُطلّ علينا كل أسبوع بتصريح متفائل عن الإصلاح، وكأنها تبيعنا تذاكر إلى “سويسرا”، بينما الواقع يُشبه طوابير المستوصفات وارتفاع فواتير الماء والكهرباء.

تُريدنا أن نفرح بإنجازات وهمية، وتُذكّرنا ليل نهار بأن “البلاد بخير”، لكننا لا نرى هذا “الخير” إلا في أرصدة الوزراء، وفي صور المسؤولين الذين يبتسمون أمام الكاميرات كما لو أنهم يعيشون في دولة أخرى.

ومع ذلك، سيبقى المغربي – بعناده الجميل – يجد طريقه نحو الضحك ولو بين الدموع. سيغني بعد كل هزيمة، ويصفق بعد كل هدف، ويبتكر نكتة جديدة بعد كل أزمة، لأن الفرح بالنسبة له مقاومة وطنية في وجه العبث الرسمي.

فيا حكومتنا الموقرة، لا تزعجوا أنفسكم بمحاولات “الترفيه” عن الشعب، فقط اتركوا له ما تبقّى من أسباب البسمة، ودعوه يفرح بنصر صغير على فرنسا… فقد تعبنا من الهزائم الكبيرة على يدكم.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.