مجتمع

المغرب بين المفارقات: عندما يصبح الحامي حراميًا!

ضربة قلم

في البدء، لنحاول أن نتخيل المشهد: ضابط شرطة، يفترض أنه جزء من المنظومة الأمنية المكلفة بحماية المجتمع من الجريمة، يُلقى عليه القبض بتهمة ترويج المخدرات. لو كان هذا خبرًا منفردًا، لقلنا إنها حالة معزولة، وربما تكون زلة فردية في صفوف مؤسسة أمنية تضم الآلاف من رجال الشرطة الذين يضحون يوميًا لحفظ النظام. لكن، حين يصبح هذا النوع من الأخبار متكررًا، حين يضبط مسؤول أمني متورطًا في تجارة المخدرات، وعندما نعلم أن بعض البرلمانيين الذين يُفترض أنهم مشرعو القوانين، هم أنفسهم متورطون في تجارة السموم القاتلة، فإن السؤال لم يعد عن الواقعة نفسها، بل عن المنظومة برمتها: من يحمي من؟ ومن يراقب من؟ وهل نحن أمام حالة شاذة أم ظاهرة متجذرة؟

حين يتاجر رجال الأمن في الجريمة

من المفارقات التي تكشف عمق الأزمة في المغرب أن رجال الأمن الذين يُناط بهم تطبيق القانون هم أنفسهم من ينتهكونه. رجل الشرطة الذي يُمسك بتاجر المخدرات هو نفسه الذي يوزع “البضاعة” من الخلف، والمسؤول الذي يُفترض أن يكون قدوة يُلقي بمحاضرات في الأخلاق صباحًا، بينما يفاوض المافيات ليلًا. إنها ثنائية “الشرطي والتاجر”، حيث يتبادل الدوران وفقًا لمصالح اللحظة. والمفارقة الكبرى أن هؤلاء الأشخاص، عندما يسقطون، يُقدَّمون على أنهم “حالات فردية”، وكأن كل حالة فردية ليست مجرد غصن فاسد في شجرة جافة بالكامل!

لكن كيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ كيف أصبحت المؤسسات التي يُفترض أن تكون حصنًا ضد الفساد، جزءًا من المشكلة بدل أن تكون جزءًا من الحل؟

البرلمان… قبة التشريع أم وكر الجريمة؟

إذا كان من المقبول نظريًا أن بعض رجال الشرطة قد يسقطون في فخ الإغراءات المالية ويستغلون سلطتهم في التربح غير المشروع، فإن الكارثة الحقيقية تكمن في مكان آخر: في قبة البرلمان. هؤلاء ليسوا موظفين عاديين، بل هم ممثلو الأمة، واضعو القوانين، من يفترض أن يكونوا ضمير الوطن. لكن عندما نعلم أن بعض النواب أنفسهم متورطون في تجارة المخدرات الصلبة، وأنهم يملكون “لوبيات” تحمي مصالحهم وتجعلهم فوق القانون، فإننا لم نعد أمام دولة مؤسسات، بل أمام “شركة مساهمة” تتحكم فيها المصالح، حيث يُقاس النفوذ بحجم “التجارة” التي يديرها كل واحد منهم.

يصبح القانون مجرد حبر على ورق، يُسنّ ليخدم مصالح محددة، وعندما تتغير الموازين، قد يتحول “المشرع” إلى “متهم”، لكن فقط حين تصبح تصفية الحسابات ضرورة سياسية أو إقليمية.

التعليم.. عندما يصبح الأستاذ تاجرًا والجامعة سوقًا!

وإذا غادرنا البرلمان واتجهنا إلى قطاع آخر، يُفترض أنه آخر قلاع الأخلاق في المجتمع، سنجد أن الجامعة، التي كانت معقل العلم والفكر، لم تعد بعيدة عن هذا المستنقع. أساتذة جامعيون يبيعون الماستر والدكتوراه لمن يدفع، ويشترط بعضهم الجنس مقابل النقط، حتى تحولت الجامعة من مكان لتكوين الأدمغة إلى مزرعة تُنتج الألقاب والديبلومات لمن يدفع أكثر.

الطالب الذي لا يملك المال أو النفوذ، يُفرض عليه إما القبول بهذه القواعد، أو مغادرة السفينة، لأنه لا مكان للأخلاق في وسط تتحكم فيه شبكات المصالح. وعندما يتخرج هذا الطالب، يجد نفسه في مجتمع يكرّس نفس المنطق: “الدفع مقابل الخدمة”، سواء في التعليم، أو الصحة، أو القضاء، أو الأمن.

القضاء… حين تصبح العدالة سلعة!

أما القضاء، فهنا تبلغ الكوميديا السوداء ذروتها. ليس سراً أن بعض القضاة يبيعون الأحكام لمن يدفع، وأن المال قد يجعل الجاني ضحية والضحية جانيًا. القضية ليست مجرد أخطاء فردية أو حالات معزولة، بل هي بنية متكاملة حيث “الأحكام جاهزة” بمجرد أن تدخل الأموال إلى “المطبخ القانوني”.

قد يُبرأ متهم معروف، لمجرد أن لديه المال والعلاقات، بينما يقضي بريء سنوات في السجن لأنه لم يجد من يدافع عنه. وقد يُنصف شخص في محكمة اليوم، لكنه يُدان في محكمة الغد إذا تغيرت الولاءات والمصالح.

عندما يُصبح الفساد قاعدة لا استثناء!

في مجتمع كهذا، ماذا يمكن أن ننتظر؟

  • أن يتم إصلاح البلاد؟ هذا شبه مستحيل في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية.
  • أن يثور الشعب؟ ربما، لكن التجارب أثبتت أن الشعوب التي اعتادت الفساد قد تستمر في العيش معه دون مقاومة، وكأنها تطورت لتتأقلم معه.
  • أن نرى استثناءات أخلاقية؟ نعم، هناك شرفاء في كل القطاعات، لكنهم قلة، وغالبًا ما يتم تهميشهم أو تصفيتهم إداريًا ليظل “الكبار” في مواقعهم.

إلى أين؟

الواقع أن المغرب يعيش مفارقة قاسية:

  • بلد لديه طاقات بشرية هائلة، لكنه يهدرها في أنظمة فاسدة.
  • بلد لديه مؤسسات قوية من حيث الشكل، لكنها هشة من حيث الجوهر.
  • بلد يريد أن يكون دولة قانون، لكنه لا يستطيع أن يحاكم رموز الفساد الحقيقيين، بل يكتفي بالتضحية ببعض “الأكباش” لامتصاص الغضب الشعبي.

في النهاية، الأمر أشبه بعملية تدوير للأدوار:

  • قد يكون الشرطي تاجر مخدرات، لكنه يومًا ما قد يُسجن بتهمة الفساد، ويحل محله شرطي آخر قد يسقط بدوره في نفس الفخ.
  • قد يكون البرلماني تاجر مخدرات، لكنه يومًا ما قد يُدان سياسيًا، ويأتي برلماني آخر يكمل الطريق.
  • قد يكون القاضي مرتشيًا، لكنه يومًا ما قد يُكتشف أمره، ويتم تعويضه بآخر قد يكون أكثر “ذكاءً” في التخفي.

الفساد هنا ليس استثناءً… بل هو القاعدة، وكل من يخرج عنها، إما يُقصى، أو يُسحق، أو يُحوّل إلى “مُهرّج” لا يؤخذ على محمل الجد.

ويبقى السؤال معلقًا: هل الفساد في المغرب مسألة أشخاص، أم أنه أصبح ثقافة ونمط حياة يصعب التخلص منه؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.