
ضربة قلم
يعيش المغرب حالة شد وجذب بين قوى تسعى إلى الإصلاح وقوى أخرى تستميت في مقاومة التغيير، ليس فقط من باب الدفاع عن مصالحها، ولكن لأنها تدرك أن أي إصلاح حقيقي يعني نهاية امتيازاتها التي تحولت بمرور الزمن إلى حقوق مكتسبة في نظرها. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل سيأتي يوم يُجلى فيه هؤلاء الفاسدون عن المشهد السياسي والاقتصادي، أم أنهم بارعون في إعادة إنتاج أنفسهم بأشكال وصيغ أكثر أناقة وحداثة؟
لا يختلف اثنان على أن الفساد في المغرب ليس وليد اليوم، بل هو منظومة متجذرة تحكمها قوانين غير مكتوبة، حيث تتداخل المصالح بين السياسي والاقتصادي، ويتحول الولاء إلى سلعة قابلة للمساومة، والصفقات العمومية إلى غنائم تتقاسمها نخبة محصنة. لكن الجديد اليوم هو أن الفساد لم يعد بتلك الفجاجة التقليدية، بل ارتدى ثوب الحداثة وأصبح يتحدث بلغة التنمية المستدامة، والتحول الرقمي، والابتكار الاجتماعي، لكنه في جوهره لا يزال يعيد إنتاج نفس الأنماط السائدة.
المستقبل لا يُكتب بالصدفة، بل تصنعه الإرادة الشعبية والقرارات الجريئة. فإذا كان هناك وعي حقيقي لدى المواطنين بأن أصواتهم ليست سلعة، وإذا استمر القضاء في تعزيز استقلاليته، وإذا تم تفكيك شبكات المصالح التي تحمي الفساد، فحينها يمكن الحديث عن تغيير حقيقي. لكن إن ظل المال الانتخابي سيد اللعبة، واستمرت منظومة الولاءات فوق القانون، فسيظل البرلمان مسرحًا لوجوه تتبدل لكنها تنتمي لنفس المدرسة.
الرهان الأكبر اليوم هو على استقلالية القضاء، فكلما كان القضاء قويًا ومستقلًا، كلما شعر الفاسدون أن “الهوامش الآمنة” التي كانوا يتحركون فيها بدأت تضيق. لا أحد يطلب المعجزات، لكن حين نرى ملفات الفساد الكبرى تُفتح بجدية، وتصدر أحكام رادعة لا تراعي الأسماء أو المناصب، حينها فقط يمكن القول إن المغرب يسير على درب التغيير.
علاقة الفساد بالسياسة في المغرب ليست مجرد زواج مصلحة، بل هي أشبه بزواج كاثوليكي لا يقبل الطلاق. فبعض الفاسدين ليسوا مجرد أشخاص يمارسون الفساد، بل هم جزء من تركيبة نظام سياسي واقتصادي يقوم على توزيع الامتيازات وتبادل المصالح. لهذا، فإن “إجلاء الفاسدين” ليس مجرد قرار يُتخذ، بل هو مسار طويل يحتاج إلى تغييرات بنيوية عميقة، تشمل إعادة تعريف دور الدولة، وطبيعة العلاقة بين السلطة ورأس المال، وإصلاح المنظومة الانتخابية حتى لا تتحول صناديق الاقتراع إلى مجرد أداة لإعادة إنتاج نفس النخب.
المغرب يملك إمكانات هائلة، وشبابًا طموحًا، ورغبة مجتمعية متزايدة في القطع مع عهد الإفلات من العقاب. التغيير قد يكون بطيئًا، لكنه ممكن. ربما لن نشهد بين ليلة وضحاها “إجلاءً” كاملاً للفساد، لكنه حتمًا سيتقلص كلما ارتفع سقف المحاسبة، وتقلصت مساحة التسامح مع تجار الضمائر.
إما أن يُطرد الفاسدون من المشهد، أو ستظل البلاد تدور في نفس الحلقة المفرغة، حيث يُستبدل فاسد بآخر، دون أن يتغير الجوهر. الخيار بين أيدينا جميعًا: هل نريد مغربًا جديدًا، أم مغربًا يُعاد تدويره بنفس العلل؟