سياسة

المغرب والجزائر: صراع الأشقاء أم لعبة العسكر؟

ضربة قلم

تحليل عميق للعلاقات بين المغرب والجزائر: التاريخ والدوافع والانعكاسات

وإذ نتناول هذا الموضوع بكل تجرد وموضوعية، انطلاقًا من أضخم شاهد على العصر وهو التاريخ، نجد أن جذور النزاع بين المغرب والجزائر تمتد لعقود طويلة، حيث لم يكن مجرد خلاف عابر، بل تداخلت فيه عوامل معقدة شكّلت ملامحه عبر الزمن. فالتاريخ والجغرافيا كانا شاهدين على علاقة متشابكة بين البلدين، اتسمت بفترات من التعاون والتآزر، ولكن أيضًا بمراحل من التوتر والعداء، عززتها النزاعات الحدودية، والتوظيف السياسي للأحداث، والتدخلات الخارجية التي سعت إلى تأجيج الصراع بما يخدم مصالحها. وبينما كان يُفترض أن يكون القرب الجغرافي والتاريخ المشترك أساسًا لبناء شراكة استراتيجية، تحوّل هذا الترابط إلى ساحة صراع مفتوح، تستغله بعض الفصائل الحاكمة كوسيلة لإعادة توجيه الرأي العام، وإبقاء الأوضاع الداخلية تحت السيطرة، في الوقت الذي تعاني فيه المنطقة من تحديات تنموية وأمنية تستدعي تكاتف الجهود بدل تعميق الانقسامات.

النظام العسكري الجزائري: المستفيد الأكبر
لا يمكن فهم استمرار العداء بين المغرب والجزائر دون الإشارة إلى الدور المحوري للنظام العسكري الجزائري في تغذية هذا النزاع. فمنذ استقلال الجزائر عام 1962، ظل الجيش المؤسسة الأكثر نفوذًا، متحكمًا في مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية. وقد وجد قادة الجيش في النزاع مع المغرب ذريعة مثالية لإحكام قبضتهم على الحكم وتحويل الأنظار عن الأزمات الداخلية المتفاقمة. المفارقة هنا أن المغرب كان من أكبر الداعمين لحرب تحرير الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، حيث قدّم دعماً لوجستياً وسياسياً وعسكرياً لجبهة التحرير الوطني الجزائرية. غير أن هذا الدعم، الذي كان يُفترض أن يكون أساساً لعلاقات أخوية بين البلدين، تحوّل مع مرور الزمن إلى جحود سياسي من طرف النظام الجزائري، الذي اتجه سريعاً نحو افتعال النزاعات مع المغرب عوضاً عن بناء شراكة متينة بينهما.

المستفيدون الآخرون: لعبة المصالح الإقليمية والدولية
إلى جانب النظام العسكري الجزائري، هناك أطراف إقليمية ودولية تستفيد من استمرار هذا النزاع.

  • القوى الكبرى وصناعة السلاح: يشكل النزاع بين البلدين سوقًا مربحة لشركات الأسلحة العالمية، حيث يدفع سباق التسلح المستمر كلا البلدين إلى إنفاق مليارات الدولارات على التسلح، وهو ما يُبقي بعض القوى الكبرى مستفيدة اقتصاديًا من استمرار التوتر.
  • الجهات التي تروج للجريمة المنظمة والتهريب: في ظل غياب التعاون الأمني بين المغرب والجزائر، تزدهر شبكات التهريب، سواء تعلق الأمر بالمخدرات، السلع، أو حتى البشر، ما يجعل بعض المافيات العابرة للحدود مستفيدة من غياب التنسيق الأمني والاستخباراتي بين البلدين.
  • بعض الأنظمة الإقليمية التي تخشى التقارب المغاربي: هناك أنظمة في المنطقة تخشى أن يؤدي أي تقارب بين المغرب والجزائر إلى قيام تكتل اقتصادي وسياسي قوي في شمال إفريقيا، وهو ما قد يهدد مصالحها الاستراتيجية. لذا، تعمل هذه الجهات على إبقاء العداء قائمًا لمنع أي وحدة محتملة قد تغيّر موازين القوى الإقليمية.
  • الإعلام الموجه وحروب الدعاية: تستغل بعض وسائل الإعلام، سواء المحلية أو الدولية، النزاع لتعزيز نفوذها وتأجيج المشاعر القومية، مما يزيد من تعقيد الحلول ويجعل الشعوب أسيرة لسرديات عدائية موجهة.
  1. السياق التاريخي والخلفيات الجذرية
    تعود جذور التوتر بين البلدين إلى الحقبة الاستعمارية، إذ ساهمت سياسات فرنسا في ترسيم الحدود بصورة تعقد العلاقات بين المغرب والجزائر. ففي خمسينيات القرن الماضي، تم ضم منطقتي تندوف وبشار إلى الأراضي الجزائرية، مما أثار مطالب المغرب باسترجاعهما عقب استقلاله في عام 1956. وبعد استقلال الجزائر عام 1962، تعمقت الخلافات الحدودية التي أدت إلى نزاع مباشر كان أبرز محاوره حرب الرمال عام 1963، إذ تصاعدت الاشتباكات العسكرية في منطقة حاسي بيضا، فيما سعت مبادرات دبلوماسية، من بينها تدخل الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الأفريقية، إلى تهدئة الموقف دون تحقيق حل جذري.
  2. التدخلات الإقليمية والدولية ودورها في تعقيد الموقف
    لم يقتصر النزاع على بعد ثنائي محصور بين الجارين، بل شمل أيضاً تدخلات إقليمية ودولية لعبت دوراً في تعقيد الصورة. فقد استغلت بعض القوى الإقليمية، مثل مصر الناصرية، هذا الصراع لتبرير توجهاتها في المنطقة وتحقيق مصالح جيوسياسية خاصة، بينما حاولت قوى دولية أخرى استغلال العداء بين المغرب والجزائر لتأجيج الصراعات الداخلية في كلا البلدين. هذا التداخل بين العوامل المحلية والعالمية زاد من صعوبة الوصول إلى حل سياسي يعيد الاستقرار إلى المنطقة.
  3. دور النظام العسكري الجزائري واستغلال النزاع الداخلي
    منذ استقلال الجزائر، أصبح الجيش المؤسسة القوية التي تهيمن على مفاصل الدولة، حيث استغل النزاع مع المغرب كأداة لتبرير استمرارية حكمه وقمع المعارضة. فقد اعتمد النظام على سياسة “العدو الخارجي” لتحويل الانتباه عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، مؤسساً بذلك قاعدة شعوبية تبرر الإنفاق العسكري الضخم حتى وإن كان على حساب التنمية. هذا الاستخدام الاستراتيجي للنزاع ساعد على ترسيخ مواقف متشددة داخل الأوساط العسكرية والسياسية في الجزائر، مما جعلها أحد العوامل الأساسية لاستمرار التوتر مع المغرب.
  4. حادثة اعتقال سعيد شنقريحة: رمز التصعيد العسكري
    تعد حادثة اعتقال قائد الجيش الجزائري سعيد شنقريحة خلال حرب أمغالا عام 1976 من أبرز المحطات التي جسدت حدة التوتر العسكري بين البلدين. ففي تلك الواقعة، حاولت كتيبة جزائرية التسلل إلى الأراضي المغربية، ما أدى إلى اعتقال شنقريحة من قبل القوات المغربية. تدخل القوى الإقليمية حينها، حيث لعب الرئيس المصري أنور السادات وحسني مبارك دوراً محورياً في إطلاق سراحه، مما أسفر عن ضربة قوية للنظام العسكري الجزائري ولرئيسه آنذاك هواري بومدين. هذا الحدث لم يكن مجرد اشتباك عسكري، بل أصبح رمزًا للتوتر المستمر والضغائن التاريخية التي تعصف بالعلاقات بين المغرب والجزائر.
  5. التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية
    تعد الآثار المترتبة على النزاع بين المغرب والجزائر أكثر من مجرد تبعات سياسية أو عسكرية؛ إذ امتدت لتشمل جوانب اقتصادية واجتماعية وأمنية حيوية. فقد أدى إغلاق الحدود البرية منذ عام 1994 إلى تقليص فرص التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين، مما حرم كلا الشعبين من إمكانيات نمو مشترك واستفاد منها بناء سوق مغاربي متكامل. على الصعيد الأمني، أعاقت الحالة المتوترة التنسيق المشترك لمواجهة تحديات إقليمية كالإرهاب والهجرة غير الشرعية، ما أدى إلى زيادة حساسية الأوضاع الأمنية وتفاقم الفوضى في بعض المناطق.
  6. دوافع النزاع واستغلال القوى الداخلية والخارجية
    يستخدم النظام العسكري الجزائري النزاع مع المغرب كذريعة لترسيخ سلطته داخلياً، إذ يتم تبرير سياسات القمع والاستبداد بوجود “عدو خارجي” يهدد استقرار البلاد. هذا الاستغلال السياسي للنزاع يسمح للقيادات العسكرية بتأجيج المشاعر القومية وتحويل الانتباه عن المشاكل الحقيقية مثل البطالة والفساد وسوء إدارة الثروات الوطنية، خاصة تلك الناتجة عن قطاعات النفط والغاز. في الوقت نفسه، تستفيد بعض القوى الإقليمية والدولية من استمرار العداء، مما يجعل حل النزاع مسألة معقدة تتداخل فيها مصالح داخلية وإقليمية ودولية.
  7. تساؤلات حول المستقبل وآفاق الحل

يبقى السؤال الملح: هل يمكن تجاوز هذه الحلقة المفرغة من التوتر والصراع؟ ففي الوقت الذي يستغل فيه النظام العسكري الجزائري النزاع لتعزيز قبضته، تبرز حركات شعبية في الجزائر تطالب بالتغيير والإصلاح. وينبثق من هذا الواقع تساؤل حول قدرة الشعوب المغاربية على تخطي العداء الذي أوجده قادة الأنظمة لصالح مصالحهم الخاصة، والانتقال نحو شراكة تقوم على التعاون الاقتصادي والأمني الحقيقي بعيداً عن التأجيج السياسي والتدخلات الخارجية. إن إعادة صياغة العلاقات بين المغرب والجزائر تتطلب رؤية جديدة ترتكز على الحوار والثقة المتبادلة، واستثمار الإمكانيات المشتركة لتحقيق استقرار شامل في المنطقة.

خاتمة

يمثل النزاع بين المغرب والجزائر حالة معقدة من التداخل بين التاريخ والسياسة والعسكرية والاقتصاد، حيث يتجلى تأثير النزاعات الحدودية والتلاعبات السياسية في استمرار التوتر بين البلدين. وبينما تسعى الشعوب المغاربية لتحقيق تطلعاتها للتنمية والاستقرار، يبقى الحل الحقيقي مرتبطاً بتجاوز الأحقاد المصطنعة وبناء جسر من الحوار والتعاون يستند إلى المصالح المشتركة. رغم التصعيد المستمر، تفرض المصالح الاستراتيجية على البلدين، عاجلاً أم آجلاً، البحث عن حلول سلمية؛ لأن استمرار العداء لا يخدم سوى النظام العسكري الجزائري وبعض القوى الخارجية التي تستفيد من الانقسامات الإقليمية.
ولكن السؤال الأهم يبقى: هل يستطيع الشعب الجزائري، الذي خرج في حراك شعبي مطالباً بالتغيير، كسر هذه الحلقة المفرغة من العداء المصطنع؟ وهل يدرك المواطن الجزائري أن استمرار النزاع لا يخدم سوى نخبة عسكرية تستنزف ثروات البلاد باسم “قضية مفتعلة”؟
إن تجاوز الخلافات السياسية لصالح بناء شراكة ترتكز على المصالح الاقتصادية والأمنية المشتركة هو الخيار الأمثل، ولكن يبدو أن تحقيق ذلك لن يتحقق إلا عندما يدرك الشعب الجزائري أن عدوه الحقيقي ليس خارج حدوده، بل يكمن فيمن يدير اللعبة من الداخل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.