
ضربة قلم
في المشهد الثقافي المغربي، ظلت الممثلة فاطمة خير لسنوات طويلة واحدة من الوجوه المحبوبة لدى فئات عريضة من الجمهور، ليس فقط بسبب حضورها التلفزيوني والسينمائي، ولكن أيضًا لما كانت تمثله من صورة “المرأة المغربية” القريبة من الناس، التي تحمل في أدائها البساطة والاحترافية في آنٍ واحد، دون ادعاء أو تكلّف. وقد كان من السهل على الناس أن يُحسّوا بها، ويجدوا فيها امتدادًا لهم في الشاشة. غير أن ما كان محسوبًا لها كرصيد رمزي واجتماعي، بدأ في التآكل بمجرد دخولها عالم السياسة.
في بلد مثل المغرب، لا تزال العلاقة بين المثقف أو الفنان والسياسي محل توجس دائم. إذ أن الذاكرة الجماعية تحتفظ بعدد غير قليل من الأمثلة التي تحوّل فيها الانخراط السياسي لشخصية فنية أو ثقافية إلى عبء على صورتها أمام الجمهور، إما بسبب الانتماء الحزبي الواضح، أو بسبب الاستفادة من مناصب تُفهم في أحيان كثيرة كـ”مكافأة” أكثر منها كمهمة عمومية نابعة من كفاءة أو التزام مدني.
فاطمة خير، بعد أن ترشحت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وأصبحت نائبة عن حزب سياسي، دخلت بذلك في منطقة رمادية، حيث لم تعد تنتمي فقط إلى جمهور الفن، بل أصبحت تُحسب على مؤسسة تشريعية لا تحظى بثقة شعبية عالية، وتُربط كثيرًا بالامتيازات والريع والتنازل عن الاستقلالية الرمزية. هنا وقع ما يشبه الانزلاق الرمزي: ممثلة كانت تمثل “كل الناس” أو على الأقل قطاعًا واسعًا منهم، تحوّلت فجأة إلى جزء من “السلطة”.
وإذا كان العمل السياسي لا يُعد عيبًا أو محرمًا في حد ذاته، فإن الإشكال في السياق المغربي يكمن في طبيعة هذا العمل، والمآلات التي يفرزها. فالسياسة هنا لا تُفهم غالبًا على أنها خدمة للشأن العام، بقدر ما يُنظر إليها، للأسف، كمساحة للامتيازات الشخصية والاجتماعية، وكمسار يُغلق الأبواب في وجه النقد البناء أو المحاسبة الرمزية. وقد بدا ذلك جليًا في ردود الفعل التي تلت تصريحات فاطمة خير الأخيرة، والتي بدت بعيدة عن نبض الناس وهمومهم، بل وُصفت بأنها تجمعية وبعيدة أن تكون شعبية، ما فتح الباب لتراكم السخط الرمزي عليها.
لعل المشكل الأعمق هنا لا يتعلق فقط بفاطمة خير، بل بما هو أوسع: هل يمكن لشخصية فنية، عاطفية، عفوية، محبوبة من الشارع، أن تحافظ على هذا الوهج إذا انتقلت إلى مؤسسات تُثير نفور الناس؟ هل بإمكان الفنان أن يمشي على هذا الحبل المشدود بين جاذبية الصورة ومتطلبات الانتماء الحزبي؟ بل أكثر من ذلك: هل يدرك بعض الفنانين أن “حب الناس” لا يُشترى ولا يُؤجر، وأن الرأسمال الرمزي حين يُستنزف في مشاريع لا تتناغم مع صورة الشخص في أذهان جمهوره، يُصبح من الصعب استعادته؟
لقد كانت فاطمة خير، بفضل مسيرتها الطويلة، من بين الأسماء القليلة التي حافظت على شعبيتها رغم الزمن. لكن ما حدث بعد دخولها البرلمان قد يُعتبر درسًا مزدوجًا: أولًا، أن الفن قد يكون أنبل من السياسة في أعين الناس، وثانيًا، أن الاحترام لا يُفرض بمنصب ولا بلقب، بل يُنتزع من خلال البقاء صادقًا مع الذات ومع الجمهور.
بعض المتعاطفين معها يرون أن الانتقال إلى العمل السياسي كان بدافع الإيمان بالتغيير من الداخل، لكن الرأي الغالب في الشارع يبدو غير مقتنع بذلك. وربما يكمن الخطأ الأكبر في كونها لم توفّق في تواصلها السياسي، ووقعت في فخ التصريحات التي اعتُبرت بعيدة عن لغة البسطاء، ما زاد من تآكل رصيدها الشعبي.
وفي النهاية، يمكن القول إن فاطمة خير لم تُخطئ في رغبتها في خدمة الوطن من موقع مختلف، لكن الإشكال في السياق العام الذي يُحمّل السياسيين عبئًا مضاعفًا، وخاصة إذا كانوا فنانين. الجمهور المغربي، الذي يعاني من التهميش والغلاء وانعدام الثقة، لم يعد يفرق بين برلماني جاء من الفن أو من التجارة أو من الإدارة. الكل عنده “برلماني”، أي مستفيد من وضع خاص، ويُفترض أنه لم يعد يمثله.
ربما لو اختارت فاطمة خير مسارًا ثقافيًا مدنيًا، كأن تؤسس جمعية أو تشتغل في التربية على المواطنة أو الدفاع عن حقوق الفنانين، لكان ذلك أنسب لصورتها، وأكثر تأثيرًا على المدى الطويل. لأن المشكل لم يكن في الترشح للانتخابات، بل في الذوبان داخل مؤسسة لم تعد تُقنع الناس بجدواها.
والمفارقة أن الاسم “فاطمة خير” قد أصبح، في الإشارات الثقافية الساخرة، محط تأويل مزدوج: فـ”خير” لم يعد بالضرورة خبرًا سعيدًا بالنسبة للجمهور، بل صار اسمًا مفارقًا لمآلها السياسي. ومع ذلك، لا يزال من الممكن لفاطمة خير أن تستعيد جزءًا من وهجها، إن هي التقطت الرسالة، وتصالحت من جديد مع حس الجمهور، لا بمنشور ولا بتصريح، بل بمواقف صادقة تستعيد بها مكانتها الأولى كفنانة صنعت حب الناس بموهبتها، لا بمنصبها.