الافتتاحية

المنبطحون الجدد: حين يصبح الانحناء رياضة وطنية!

محمد صابر

ها نحن اليوم في زمن “الدهاء الاستراتيجي”، حيث المبادئ صارت تُباع بالميزان، والمواقف تُقاس بالدرهم، والولاء يُحتسب بعدد الامتيازات الممنوحة. لم نعد بحاجة إلى رجال بمواقف، بل إلى رجال بعدة وجوه، يبدلون جلودهم كما تبدل الأفاعي قشورها عند أول فرصة سانحة. صار المشهد السياسي والاجتماعي نسخة محينة من “السيرك”، حيث كل بهلوان يتفنن في استعراض مواهبه في التلون، والتقلب، والتزلف، والتملق، والانحناء بزاوية محسوبة بدقة علمية لضمان عدم كسر العمود الفقري، فالبقاء للأكثر مرونة، وليس للأكثر شرفًا.

لقد وُئدت المبادئ النبيلة في صمت، وأقيمت لها جنازات مهيبة دون حضور جمهور يُذكر. أما أصحابها، فقد أصبحوا غرباء وسط الزحام، كائنات منقرضة تثير الشفقة أو السخرية، لأنهم يرفضون الانحناء لقوانين اللعبة الجديدة، حيث الحق ليس هو الحق، بل هو ما يقرره أصحاب المناصب العليا، والباطل ليس باطلاً، بل مجرد رأي يمكن إعادة التفاوض حوله مقابل حفنة امتيازات أو مكالمة هاتفية تحمل في طياتها ترقية غير متوقعة.

أينما ولّيت وجهك، ستجد جوقة من الوجوه التي لم تكن شيئًا يُذكر، لكنها استيقظت ذات صباح على وقع مفاتيح سيارات فارهة، وشقق فاخرة، ومناصب لم يكن أحد يتخيل أنها ستؤول إليهم. بالأمس كانوا “حفاة عراة”، واليوم يتحدثون بلهجة الواثقين، يتكلمون في المال والأعمال، ويُلقون الدروس في الوطنية والاستقامة، وهم أبعد ما يكونون عن أي فضيلة. وجوههم تغيرت، ليست فقط بفعل عمليات التجميل، بل بفعل التخمة الفجائية، والأموال التي انهالت عليهم من حيث لم يحتسبوا، حتى أن بعضهم أصبح بالكاد يتعرف على صورته القديمة في المرايا.

في هذا المشهد العبثي، لا مكان لشيء اسمه الكفاءة، ولا قيمة لمن لا يتقن لعبة الانبطاح. الوظائف العليا، المناصب الحساسة، الصفقات العمومية، كلها مقسمة مسبقًا بين الكائنات التي عرفت من أين تؤكل الكتف. أما أصحاب الشهادات والخبرات، فهم مجرد كومبارس يُستخدمون عند الحاجة لتجميل الصورة، ثم يُطردون خارج المشهد عند انتهاء دورهم.

المفارقة الساخرة أن بعض هؤلاء المتسلقين الجدد، الذين لم يكن لهم لا تاريخ ولا كفاءة، صاروا يتحدثون عن النزاهة والأخلاق وكأنهم لم يكتفوا بسرقة المال العام، بل يريدون سرقة القيم نفسها. تراهم يُلقون الخطب الرنانة، وينظرون في المصلحة الوطنية، ويدعون إلى الإصلاح، وهم أول من يعلم أن كل كلمة يتفوهون بها مجرد مسرحية رديئة الإخراج.

أما المواطن البسيط، الذي يكتفي بالمراقبة، فقد أصبح يعاني من متلازمة “اللامبالاة الإجبارية”. لم يعد يثق في شيء، ولا يؤمن بأي وعود، لأنه رأى كيف تتحول المواقف إلى صفقات، وكيف يتم بيع الشعارات لمن يدفع أكثر. صار المواطن العادي ينظر إلى أي شخص يتحدث عن المبادئ بشيء من الشك، لأنه يعلم أن المبادئ لم تعد تُطعم خبزًا، ولا تمنح امتيازًا، ولا توفر منصبًا.

في النهاية، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: إلى متى سيستمر هذا العبث؟ إلى متى ستظل الانتهازية جواز السفر نحو النجاح، بينما النزاهة تذكرة ذهاب بلا عودة إلى الهامش؟ متى سنرى اليوم الذي يصبح فيه المنصب تكليفًا وليس مكسبا، والخدمة العامة مسؤولية وليست فرصة للإثراء؟

لكن، لنكن واقعيين. في ظل هذه الظروف، هذه الأسئلة نفسها تُعتبر من علامات السذاجة، لأن الإجابة واضحة: طالما أن المبادئ تُباع، والكرامة تُرهن، والمواقف قابلة للتعديل، سيظل المال والمناصب هما السادة المطلقون.

أما نحن، ورغم تجردنا في كتاباتنا، فنمضي في دربنا محتفظين بكرامتنا، ننتظر قدرنا المحتوم دون امتيازات، دون تقاعد ذهبي، ودون تغطية صحية سخية، لكن برأس مرفوع وقلم لا يساوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.