الميراث العظيم: كيف يصنع الأب الشفار جيلًا من العباقرة في فن السطو

ضربة قلم
في المدن المغربية الصغيرة، حيث الشفافية ليست مجرد شعار فارغ بل واقع ملموس تفضحه تفاصيل الحياة اليومية، يتجلى بوضوح كيف تؤثر السلوكات الفاسدة للأب على المسار الأخلاقي لأبنائه. عندما يكون الأب “شفارا”، متلاعبًا بالمسؤولية، أيًّا كان مستواها، يتحول الغبن إلى ميراث تتناقله الأجيال، ويتعلم الابن الجرأة على السطو كما يتعلم الطفل النطق بالكلمات الأولى.
في هذه المجتمعات الصغيرة، حيث الجميع يعرف الجميع، لا حاجة إلى تحقيقات معقدة أو تقارير رسمية لكشف الممارسات المشبوهة. الأمر بسيط، يمكن للناس أن يلمسوا بأيديهم التحولات السريعة التي تطرأ على بعض العائلات. بالأمس القريب، كان الأب موظفًا بسيطًا براتب لا يسمن ولا يغني أو حرفيا بسيطا، واليوم صار يملك عقارات وسيارات فارهة. حظ جيد، اجتهاد، أو كما يقول المثل الشعبي: “لقاها فالطريق”. لكن الطريق التي وجد فيها هذا الثراء ليست إلا دربًا معبدًا بالتلاعب بالصفقات، الرشاوى، التزوير، ونهب المال العام.
يلاحظ الناس أن أحد أبناء هذا الأب الشفار يبدو مختلفا عن بقية الأطفال. لا يشعر بالخجل، بل ينظر بازدراء إلى أقرانه الذين لم يرثوا “الذكاء” الذي يجعل من السرقة فنًّا مشروعًا في أعين المجتمع. يتربى هؤلاء الأبناء على أن القوانين مجرد خطوط وهمية يمكن تجاوزها بسهولة إذا كنت تعرف من ترشي، أو كيف تستغل الثغرات القانونية. المدارس ليست سوى محطات مؤقتة، إذ أن الحياة الحقيقية تُدرّس في مجالس الآباء المليئة بأحاديث الصفقات والاختلاسات والفرص التي لا تتكرر إلا لمن يملك الجرأة على اقتناصها.
في هذه المدن الصغيرة، الاستثناءات قليلة. نادرًا ما يتمرد الابن على هذا الإرث الأخلاقي الفاسد، لأن المجتمع نفسه لا يساعد على تصحيح المسار. حينما يرى الطفل أن “الشفرة” تجلب الاحترام والسلطة والثروة، بينما الأمانة لا تجلب سوى العوز والتهميش، فمن الطبيعي أن يميل إلى تقليد والده. يُقال إن “الولد سر أبيه”، وهذه العبارة تكتسب بُعدًا مخيفًا حين يتعلق الأمر بالفساد. فالأب الشفار يصنع ابنًا يرى في الغش ذكاءً، وفي الرشوة مهارة اجتماعية، وفي السطو طريقًا مختصرًا للنجاح.
تكبر العائلة في كنف هذا التلاعب، وتتحول الأم إلى شريكة صامتة، تغض الطرف عن مصادر الأموال طالما أن الحياة مريحة والمصاريف مغطاة. أما المجتمع، فيبدي شيئًا من التململ في البداية، لكنه سرعان ما يتكيف مع الواقع الجديد، حيث يصبح الغبن والتلاعب أمورًا طبيعية، بل أحيانًا تُروى كقصص نجاح في السهرات العائلية. “فلان كان ذكيًا، عرف من أين تُؤكل الكتف”، وبدلًا من التنديد، يصبح الإعجاب هو رد الفعل السائد.
هكذا يُعاد إنتاج الفساد في حلقات لا تنتهي. جيل يسلم المشعل للجيل التالي، والعقليات تبقى أسيرة هذه الثقافة التي تجعل من القانون لعبة تُدار بدهاء، ومن الأمانة صفة المغفلين. وإذا ما ظهر في العائلة فرد قرر التمرد على هذا الإرث، فإنه يُنظر إليه كحالة شاذة، بل يُتهم بالغباء، لأنه لم يستفد من “المعرفة” التي منحها له والده. وحتى إن قرر أن يمضي في طريق النزاهة، فإنه يواجه مجتمعًا لا يُرحب بالشرفاء، بل يُفضّل أولئك الذين يعرفون كيف “يدبرون رؤوسهم”.
لكن هل يمكن كسر هذه الحلقة؟ هل هناك أمل في أن تنقلب الأمور يومًا ما؟ التاريخ يثبت أن المجتمعات الفاسدة لا تستمر إلى الأبد. قد تعيش زمنها الذهبي، لكنها تنهار في النهاية تحت ثقل تناقضاتها. الأب الشفار قد يتمكن من تأمين مستقبل أبنائه ماديًا، لكنه يزرع فيهم بذور الدمار الأخلاقي. وعندما يكبرون، قد يواجهون مصيرًا أسوأ، لأنهم تربوا في ظل عقلية لا تؤمن بالحدود، وعاجلًا أم آجلًا، سيصلون إلى النقطة التي لن يتمكنوا فيها من التوقف.