النصب باسم السياسة، باسم النقابة، وباسم العواطف: ثلاثية الاحتيال المقدس!

ضربة قلم
إذا كنت تعتقد أن النصب مجرد عملية ساذجة تعتمد على سرقة محفظة غافل في سوق مزدحم أو بيع مياه البحر في قنينات على أنها دواء سحري، فأنت لم تتعرف بعد على المستويات العليا من الاحتيال، تلك التي تحمل أسماء رنانة مثل السياسة، النقابة، والعواطف! هنا، لا تحتاج إلى مهارات النشل أو التزوير، بل يكفيك أن تجيد فن الخطابة، وترفع حاجبك الأيسر عند الحديث عن الحقوق، وتلوّح بيديك كأنك تقسم العالم بين الظالمين والمظلومين.
السياسي المحتال يشبه بائع التوابل في سوق شعبي، يملك خلطة سحرية من الشعارات الرنانة والوعود البراقة التي تجعلك تفتح فمك دهشة وتغلق جيبك خوفًا. يبدأ مشواره بتقديم نفسه كمنقذ للأمة، كمناضل شريف ضد الفساد والمفسدين، ثم ينتهي به الأمر وهو يتقاسم الكعكة مع نفس المفسدين الذين توعد بمحاربتهم! يدخل الانتخابات كأنه بطل فيلم هندي، يُقسم أنه سيقف في وجه الفساد، وأن الشعب خطه الأحمر، لكن ما إن يضمن مقعده، حتى يتحول الخط الأحمر إلى سجادة حمراء يمر فوقها نحو مصالحه الشخصية. تصبح الجملة الشهيرة “سنقوم بإصلاحات جذرية” تعني في الواقع إصلاح وضعيته المادية والعائلية، أما الشعب فيُمنح مقعدًا مجانيًا في مسرحية “انتظرونا في الولاية القادمة”.
النقابي المحتال هو كائن آخر يستحق دراسة أكاديمية، فهو يبدأ حياته كرجل تربية أو موظف بسيط يكافح من أجل حقوق زملائه، لكنه فجأة يكتشف أن الطريق إلى الرفاهية يمر عبر مكتب النقابة وليس عبر ورشات العمل. فيتحول إلى محارب شرس ضد “الباطرونا” لكنه لا يمانع في تناول العشاء مع نفس “الباطرونا” في مطاعم فاخرة، حيث تتم الصفقات السرية بين طبق “الكافيار” وكأس العصير الطبيعي (والذي يكون عادة غير طبيعي بالمرة!). يهدد بالإضراب في كل مناسبة، يتحدث عن “الطبقة الكادحة”، ثم يركب سيارة فارهة ليتحدث عن معاناة العمال. وفي النهاية، يصبح أكثر بؤسًا من أي موظف بسيط، لكنه بؤس مرفه يعيش في فيلا مع مسبح، ويملك حسابًا بنكيًا ممتلئًا أو سيولة بعيدة عن “عين كل حاسد” بفضل “النضال المستميت من أجل الحقوق”.
إذا كنت تظن أن الاحتيال يقتصر على تجار الوهم السياسي أو أباطرة النقابات، فأنت لم تكتشف بعد مدرسة الاحتيال الأكثر دهاءً: النصب باسم العواطف. هنا، لا حاجة لخبرة اقتصادية أو قدرة على إلقاء الخطابات النارية، فقط دمعة في الوقت المناسب، لمسة من الحزن في الصوت، وربما صورة بالأبيض والأسود مع عبارة “إذا كنت تمتلك قلبًا، ساعدني!”. العواطف، تلك الطاقة العجيبة التي تجعل الإنسان يتبرع لشخص مجهول لمجرد أنه رأى صورته وهو يبكي، أو يحب شخصًا حتى النخاع، ثم يكتشف في النهاية أن قلبه كان مجرد آلة سحب نقدي، تعمل كلما ضغطت عليها الجملة السحرية: “هل تحبني حقًا؟”.
يُقال إن الحب أعمى، لكنه أحيانًا يكون غبياً أيضاً! هنا لا نتحدث عن العشق الحقيقي، بل عن أولئك الذين يتقنون لعب دور “العاشق المعذّب” للحصول على ما يريدون. هو أو هي يدّعي أن العالم قد ظلمه، وأن الحب هو الشيء الوحيد الذي يمنحه الأمل، لكن مع كل جرعة حب تقدمها، تجد أن حسابك البنكي ينقص، وأن عدد الخدمات التي تقوم بها لصالح هذا الشخص في ازدياد مستمر. “أنا بحاجة إليك” تعني في الحقيقة “أنا بحاجة إلى تسديد فاتورتي”. “لو كنت تحبني لفعلت كذا” تعني عمليًا “جرب أن ترفض طلبي وسنرى إن كنت ستبقى محبوبًا!”. “أنا أعيش من أجلك” لكن طبعًا، بمالك وبطاقتك البنكية وسيارتك! في النهاية، يختفي هذا العاشق المتيم فجأة، ليظهر في حياة شخص آخر بنفس الأسلوب، وربما بنفس الجمل العاطفية الجاهزة.
في عالم الاحتيال العاطفي، لا تقتصر اللعبة على العشاق فقط، بل تمتد إلى “الأصدقاء” الذين يتحولون إلى خبراء في فن استنزاف العواطف والجيوب معًا. يبدأ أحدهم بالظهور في حياتك مثل فارس نبيل، يشاركك مشاكلك، يستمع إليك، لكنه في المقابل يريد أن يكون أول من تلجأ إليه حين تحتاج إلى من يدفع الحساب في المقهى أو ينقذ سيارته من الحجز أو يقترض منك مبلغًا لن يعود أبدًا. إن رفضت، فأنت فجأة إنسان بلا قلب، جاحد، لا تعرف معنى الصداقة! أما إن استجبت، فأنت ببساطة ماكينة صراف آلي متنقلة بملامح إنسانية.
هذا هو النوع الأكثر احترافًا من الاحتيال العاطفي. المتسول العاطفي لا يطلب منك المال بشكل مباشر، لكنه يجعلك تشعر بالذنب حتى تقدمه له بنفسك! تجده يروي قصة حياته بتفاصيل درامية تفوق حبكة الأفلام التركية، عينه دامعة، صوته متحشرج، وربما يضع يده على قلبه كأنه على وشك السقوط من شدة القهر، ثم ينهي كلامه بجملة سحرية: “لكن لا عليك، لا أريد أن أكون عبئًا عليك، سأتحمل قدري وحدي!”. وهنا، تقع الضحية في الفخ، ويبدأ عقلها في تشغيل “موسيقى الحزن الداخلية”، فتجد نفسك تسارع إلى إخراج المال، المساعدة، أو حتى تقديم خدمات لا تفهم كيف وجدت نفسك تقوم بها.
لا أحد يريد أن يكون ابنًا أو أخًا عاقًا، وهذه ورقة رابحة بيد بعض أفراد العائلة الذين يتقنون فن “تذكيرك بواجبك” كلما احتاجوا شيئًا منك. فجأة، يتحول ماضيك إلى قائمة ديون عليك تسديدها: “هل تذكر حين كنت صغيرًا واشتريت لك الحلوى؟ الآن لا تستطيع مساعدتي؟!”. “نحن عائلة، والعائلة تعني أن نكون سندًا لبعضنا البعض!” (وغالبًا السند هنا يكون من طرف واحد فقط!). “هل ستدعني أواجه مشاكلي وحدي؟ أنا الذي كنت أحبك أكثر من نفسي؟!”. وفي لحظة ضعف، تجد نفسك تدفع، تبرر، وتتحمل فوق طاقتك فقط لأنك لا تريد أن تكون “ذلك الشخص القاسي”.
المشكلة في هذا النوع من الاحتيال أنه لا يستهدف الأغبياء فقط، بل حتى الأذكياء يقعون فيه. لأننا جميعًا لدينا نقطة ضعف تجاه العواطف، لأننا نخاف أن نكون بلا قلب، ولأننا نحب أن نشعر بأننا نساعد الآخرين، نجد أنفسنا في النهاية ندفع الثمن. لكن الفرق بين الإنسان العادي والنصاب العاطفي هو أن الأول يشعر بالذنب حين يأخذ منك شيئًا بلا مقابل، بينما الثاني يشعر بالذكاء، وربما يحتفل بالضحك في داخله لأنه وجد ضحية جديدة يمكنه خداعها لفترة أطول. لذا، في المرة القادمة التي يخبرك فيها شخص ما أنه يحبك، أو يحتاجك، أو لا يستطيع العيش بدونك، خذ نفسًا عميقًا واسأل نفسك: هل أنا هنا من أجل الحب؟ أم مجرد حساب بنكي متنقل؟!
المشكلة في هذه الأنواع من النصب أنها لا تعمل إلا بوجود الضحية المثالية: المواطن الطيب الذي يصدق الشعارات، العامل الذي يعتقد أن نقابته ستحميه، والمواطن الحنون الذي يرى أن التبرع هو واجب إنساني، وهكذا، يبقى المخدوع يدور في دائرة مغلقة من الأمل المخدوع، فيما النصاب يبتسم ويعدّ أرباحه.