النفوذ الخفي لشبكات المصالح في تسيير الشأن المحلي: ديمقراطية الواجهة وتحالفات الظل

ضربة قلم
في المغرب، تتكرر كل بضع سنوات مشاهد الانتخابات الجماعية، حيث تُنصب الخيام، وتُوزع الوعود، وتُبعث من تحت الرماد شعارات التغيير والتنمية. لكن خلف هذه الواجهة الديمقراطية، ثمة واقع أكثر تعقيدًا وصمتًا: واقع تتحكم فيه شبكات مصالح محلية تنسج خيوطها بعيدًا عن الأعين، وتُعيد إنتاج الفساد في صيغ أكثر دهاءً واستمرارية.
في كثير من الجماعات المحلية، لم تعد السلطة الفعلية بيد الرئيس المنتخب رسميًا، بل أصبحت موزعة بين أطراف تتخفى خلف الستار: مقاولون محليون يحتكرون الصفقات، أعوان سلطة يتدخلون في التعيينات والتوجيهات، وجمعيات تعمل كأذرع انتخابية أو واجهات لتبييض الأموال.
هذه الشبكات تتكامل وتتحالف ليس على أساس المشروع المجتمعي أو المصلحة العامة، بل وفق منطق الربح والاحتكار والولاء. وعندما تصطدم مصالحها بمشاريع تنموية حقيقية أو نخب نزيهة، تبدأ عمليات العرقلة والتشهير والتحريض وحتى التهديد.
يُفترض أن تشكل الجهوية المتقدمة، كما جاء في الدستور المغربي لسنة 2011، مدخلًا حقيقيًا للتنمية المستقلة والمستدامة. لكن الواقع أظهر أن غياب آليات الرقابة والشفافية الفعلية حول الجماعات إلى ساحات نفوذ مغلقة، يُعاد فيها إنتاج منطق “المخزن المحلي”، حيث تُمنح الامتيازات بالمحاباة، وتُهمَّش الكفاءات، وتُستعمل السلطة في تصفية الحسابات بدل خدمة السكان.
بل إن بعض الرؤساء يتحولون إلى “صغار سلاطين”، يتخذون القرارات بشكل فردي، يوزعون المناصب والصفقات على الموالين، ويتعاملون مع السكان باستعلاء وخطاب فوقي، وكأنهم يعيشون خارج الزمن الدستوري الذي جعل من المواطن فاعلًا في القرار لا مجرد متلقٍ سلبي له.
من بين أخطر ما تُنتجه هذه الشبكات، هو تحكمها في المعلومة. ففي كثير من الجماعات، إما لا يوجد إعلام محلي مستقل أصلًا، أو يتم شراؤه وتوجيهه، بحيث لا تُسلَّط الأضواء إلا على ما يُرضي السلطة أو الشبكة. وفي حالات نادرة، حيث يظهر صحفيون أو نشطاء يحاولون كشف المستور، يتعرضون للمضايقات، أو للمتابعات القضائية، أو للإقصاء من أي دعم.
يُستدعى المواطن فقط في زمن الانتخابات، حيث تُوزع عليه القُفف أو تُعطى له وعود وهمية، ثم يُنسى بمجرد انتهاء الحملة. أما من يحاول مساءلة المسؤولين أو المطالبة بحقوقه، فيُنظر إليه كشخص “مشاغب” أو “معرقل”. وهكذا يتحول المواطن من شريك في التنمية إلى أداة في لعبة المصالح.
السكوت عن هذه الشبكات له كلفة وطنية باهظة. فالمشاريع تتعثر، والثقة في المؤسسات تتآكل، والهجرة من القرى والأحياء المهمشة تتزايد، وحتى الخطابات الملكية الداعية إلى محاربة الفساد المحلي تُستقبل بآذان صماء في بعض المناطق.
لكن لا يزال الأمل قائمًا. فهناك نخب شابة، وفاعلون مدنيون، وصحفيون مستقلون، بدأوا يشقون طريق المقاومة بصمت، يفضحون المستور، ويطالبون بإعمال مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” لا كشعار، بل كواقع ملموس.
إن الديمقراطية في المغرب لا تُهدَّد فقط من الخارج، بل أيضًا من الداخل، من خلال تفريغها من مضمونها وتحويلها إلى واجهة تُخفي تحالفات محلية تُدير الشأن العام بمنطق الغنيمة لا الخدمة. والسكوت عن هذه الظاهرة هو أخطر من الفساد نفسه، لأنه يجعل منه أمرًا طبيعيًا، بل مستساغًا… وهنا مكمن الخطر.