مجتمع

انتهت صلاحيته” : المتقاعد المغربي بين ذاكرة الدولة وسلة النسيان

ضربة قلم

في بلد يُرفع فيه شعار “الاعتراف بالجميل” صباحًا، ويُرمى في سلة المهملات مساءً، يخرج الموظف المتقاعد بعد عقود من الخدمة العامة ليكتشف أن بطاقة تعريفه الوحيدة الآن هي رقم التأجير، وأن اسمه الكامل صار مجرد رقم على هامش أرشيف متهالك، لا يُرجع إليه إلا حين يموت أو يُطلب منه شهادة الحياة ليثبت أنه ما يزال يتنفس رغم التجاهل المؤسساتي.

المتقاعد عندنا لا يُحتفى به، بل يُوضع في الرفّ الأعلى من الذاكرة الجماعية، ذاك الرفّ الذي لا تبلغه الأيادي إلا نادرًا، وإن بلغته، فبغبار النكران. هذا المواطن الذي علّق ساعته على حائط الخدمة طيلة سنوات، والذي ربما لم يستفد من إجازته السنوية كاملة منذ 1998، يُسحب من المشهد الوظيفي وكأننا نتخلص من آلة أكل عليها الدهر وشرب، أو كما يقول بعض الإداريين دون خجل: “سالات الصلاحية ديالُو”.

أما حين يزور إدارةً ما لقضاء غرض بسيط، فاستعد لتراه واقفًا في الطابور تحت شمس يوليوز أو برد يناير، دون أدنى اعتبار لتقدمه في السن، أو إصابته بأمراض مزمنة، أو حقيقة بسيطة تقول إنه بنى هذا الوطن بشيء من الصبر والكثير من التنازلات. لا مقاعد مخصصة، لا شبابيك خاصة، ولا لفتات احترام، فقط نظرات تشي بأنه “عطّال السّير” أو “مزاحم الشباب”.

ومن الطرائف المرة، أن بعض المؤسسات التي كان يعمل بها، لا تتذكّره إلا حين يرتكب خطأً إداريًا يعود لأرشيف بعيد. أما حين يُصاب بأزمة صحية أو يطلب دعمًا بسيطًا في دواء مزمن لا يغطيه “التأمين الإجباري”، يُقابل برد إداري بارد: “ماشي من اختصاصنا”.

التمييز ضد المتقاعد ليس فقط اجتماعيًا، بل ثقافي أيضًا. في الإعلام، يُغيب صوته، وفي البرامج العمومية لا يُستشار، وكأن المعرفة والخبرة تتبخران عند سن الستين. بينما في دول أخرى يُستعان بهم كمستشارين، أو يُدمجون في الحياة العامة، نحن نختار إقصاءهم بـ”أناقة بيروقراطية” قاتلة.

أليس عيبًا أن يُعامل من خدم وطنه لعقود كأنه بات عالة عليه؟ أليس من المفروض أن يكون التقاعد بداية مرحلة جديدة، لا نهاية صلاحية؟ يبدو أننا نحبّ أن نستهلك البشر كما نستهلك الأشياء: نستفيد ثم نرمي، ولا أحد يسأل “واش باقي فيه الروح؟”.

والأدهى من ذلك، أن المتقاعد لا يُعامل كمواطن بدرجة “شبه كاملة” فقط، بل يُنظر إليه أحيانًا كمشروع صدقة متنكر، يُستدعى فقط في المواسم الانتخابية لتلميع صور مرشحين لا يعرفون الفرق بين معاش التقاعد وتقاعد المعاش. فتُقام له “خرجات ترفيهية” من النوع الذي يجعلك تتساءل هل نحن أمام سياسة اجتماعية أم نزهة جماعية على إيقاع العدسات الرسمية؟ تكريم هنا، وردة ذابلة هناك، وكلمات منمّقة تُلقى كيفما اتفق، ثم يُعاد المتقاعد إلى عزلته وكأن شيئًا لم يكن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.