باعة ومكبرات الصوت: لا رخصة، لا قانون، لا حياء!

ضربة قلم
في خضم مشهد يومي آخذ في التحول من الاستثناء إلى العادة، باتت شوارعنا وأزقتنا مرتعًا لأصوات لا تنقطع، تصدح من مكبرات صوتية يجرها باعة جوالون لا يهمهم شيء سوى لفت الانتباه، ولو على حساب سكينة أحياء بكاملها. هؤلاء الباعة لا يحملون فقط بضاعتهم الرخيصة، بل يجرّون وراءهم فوضى سمعية تفتك بالهدوء، وتجعل من البيوت المغلقة مسرحًا للإزعاج القسري. الغريب أن هذا السلوك يتم يوميًا دون حسيب أو رقيب، حتى أصبح استعمال مكبر الصوت في الفضاء العام بدون رخصة أمراً عادياً، إن لم نقل مُشرعناً بالصمت الغريب الذي تمارسه السلطات، سواء الأمنية أو الإدارية.
ومن بين هذه الكائنات الصوتية التي تجتاح الحواري، يبرز أشخاص نصابون بثوب باعة متجولين، لا يعرضون إلا الوهم في صورة أوانٍ بلاستيكية أو أدوات مطبخية تافهة لا تكاد تساوي درهمين في السوق، لكنهم يقدّمونها لربات البيوت على أنها “جديدة ومستوردة”، ويطلبون مقابلها أشياء من بقايا البيوت: سخانات قديمة، مضخات ماء مهترئة، قطع أثاث مهملة أو أدوات كهربائية لا ينقصها إلا صباغة خفيفة أو تغيير في الأسلاك لتُصبح صالحة للبيع من جديد. هم لا يبيعون، بل يتاجرون بالدهشة، ويقايضون السذاجة بما يعود عليهم بربح صامت، لكنه مؤلم في أثره.
المثير في الأمر ليس فقط ما يقومون به من احتيال مغلف بابتسامة وبضاعة رخيصة، بل في الطريقة التي يروّجون بها لبضاعتهم، حيث يعتمدون على مكبر صوت قد تُصاب بالغثيان من ضجيجه، وقد تظن أن جرس يوم القيامة قد رُفع، أو أن نداء طارئاً في الحي يدعو الناس إلى الهروب. هذا الضجيج لا يميز بين الأوقات، يُبث في الصباح الباكر، والظهيرة، وحتى ساعات الغروب، وكأن صوت هؤلاء البائعة أولى من نوم الرضيع، أو راحة المريض، أو سكينة طالب يستعد للامتحان.
والمؤسف أن هذه الظاهرة لم تعد مقتصرة على بائع واحد أو اثنين، بل صارت أشبه بعدوى صوتية تنتشر كالفطر في مواسم الفوضى. الكل يتحدث في مكبر، الكل يصرخ، الكل “يعلن” بسلطة تفوق حتى مكبرات الشرطة أو سيارات الإسعاف. لا احترام لقانون، لا وجود لترخيص، لا حس بالذوق العام، بل تسابق نحو من يزعج أكثر.
المواطن في هذه المعادلة مغلوب على أمره. يشتكي؟ لمن؟ يفتح النافذة فيجد الشرطي يمر وكأن الأمر لا يعنيه. يتوجه إلى مقر القيادة أو المقاطعة فيُجابَه بردود باردة: “راه كيخدم على راسو”، “خلّيه الله يهديه”، “ماشي خطر كبير”… وكأن الأذى صار يُقاس بالدّم والحديد فقط، أما الأذى السمعي والنفسي فذلك لا مكان له في أجندة الضبط اليومي.
إننا أمام انفلات صامت لا يقل خطرًا عن الفوضى المادية. فحين تَغيب المراقبة، وتُصبح الملكية الصوتية للشارع مُستباحة، فإننا أمام فوضى تعبيرية لا قانون يؤطرها. فوضى تحوّل الساحات العامة إلى سيرك مجاني، وتدفع بالأحياء الشعبية إلى أن تصبح مختبرات للضجيج القسري، حيث يفقد الناس القدرة على التمييز بين الإعلان والإزعاج، بين الترويج والنصب.
هذه الظواهر الصغيرة في شكلها، الخطيرة في أثرها، تُؤشر على ما هو أعمق من مجرد تقاعس السلطات، بل تكشف هشاشة في بنية احترام النظام العام، وغياب ثقافة الحماية اليومية للمواطن. وما دامت الأجهزة المسؤولة لا تتحرك إلا بعد فوات الأوان، فإن النصاب سيواصل تجواله، وسيبقى مكبر صوته يطرق أذاننا دون دعوة، وسيستمر الوهم في لبس ثوب التجارة، والاحتيال في ادعاء الرزق الحلال.
أمام هذا المشهد، لا يسعنا إلا أن نتساءل بمرارة: متى يستعيد الشارع صوته الطبيعي؟ ومتى تضع السلطات حدًا لـ”السيبة” التي أفرغت مفهوم القانون من مضمونه؟ وهل سنظل نبرّر كل فوضى بأنها “بحث عن لقمة العيش”، حتى لو تم ذلك على أنقاض الهدوء والاحترام؟