دفاتر قضائية

بضربة قلم… العدالة تُسقط مفوضاً تورّط في التزوير!

ضربة قلم

في بلد إذا سُئلت فيه “من يحمي العدالة؟” فقد تجد الجواب في خبر عنوانه: حاميها، حراميها. هذا العنوان لم يعد مجرد استعارة ساخرة من الماضي، بل صار عنوانًا واقعيًا لحلقة جديدة من مسلسل النصب القانوني المباح، حيث اعتلى المفوض القضائي مسرح الجرائم المهنية، ليس بصفته شاهداً أو منفذاً، بل بصفته الفاعل الرئيسي الذي وقّع وثيقة رسمية على مقاس خياله الواسع، وذاكرته الانتقائية.

في التفاصيل، قررت الغرفة الجنائية الابتدائية بالرباط أن تكافئ مفوضاً قضائياً بالخميسات بحكم قضائي مكوّن من سنتين، منها سنة حبسا نافذة، لأنه لم يكتف بممارسة مهنته، بل أراد أن يُبدع فيها على طريقته. ليس في إعداد المحاضر فحسب، بل في إعادة صياغة الواقع نفسه، وتغيير مواقع الجغرافيا، والتاريخ، وحتى ممتلكات الناس، بكبسة قلم.

المفوض المسكين -أعانه الله- كتب في محضره أنه أعذر المدعى عليه في بيته، وهو ما يفترضه القانون كحد أدنى من الحد الأدنى من الجدية، لكن الواقع كان أكثر شاعرية، إذ تم اللقاء في مقهى بمدينة تيفلت، وفي جلسة يبدو أنها لم تكن لتقديم الإعذار، بل لشرب قهوة مُرّة المذاق بعد تزوير رسمي المفعول. كأن لسان حال المفوض يقول: “ما الفرق بين المقهى والبيت؟ كله وطن!”، ناسياً أن المحكمة لا تتذوق الفلسفة، بل تبحث عن التواريخ والمواقع، والأفعال التي لا يشوبها اللبس، ولا يوقعها شخص تحت تأثير “الكسل المهني”.

صاحب الشكوى، الذي من المؤكد أنه مازال يتساءل كيف يمكن لشخص أن يُنفذ الإعذار في مقهى، وهو مطالب بطرقه في منزله، لم يتوقف عند هذا الحد، بل راح يفتش عن مزيد من الثقوب في المحضر، ووجد أن بيت المفوض إليه لم يكن خاوياً من المتاع كما ورد في المحضر المبتكر، بل كان يحتوي على كنوز -حسَب التقدير القضائي- كفيلة بسداد النفقة المحددة في 8400 درهم، أي ما يعادل قيمة تلاجة مستعملة وبضع كراسي وسجادة “تراثية” من أيام خطبة المشتكى به.

الطامة الكبرى؟ المفوض لم يكن يملك أصلاً الاختصاص القانوني للتنفيذ في تيفلت. وكأنك تسلّم رسالة عبر ساعي بريد لا يعرف العنوان ولا الحي ولا حتى المدينة، لكنه يصرّ عى توصيلها، بل وربما أخذ توقيعًا وهميًا على الاستلام.

حين مثل المفوض أمام المحكمة، لم يُنكر الواقعة، بل راح يفسرها: كان فقط يُحاول تصفية الملفات العالقة بمحكمة الخميسات، قبل أن تفتح محكمة تيفلت أبوابها، وكأن القضاء يجب أن يشكره على “مبادرته المبكرة”، أو يمنحه وسام “الموظف المستشرف للمستقبل القضائي”. لكن للأسف، القضاة لم يكونوا في مزاج احتفالي، واعتبروا هذا المحضر ليس فقط خطأً مهنياً، بل تزويرًا صريحًا في وثيقة رسمية، وهي تهمة ثقيلة في قاموس العدالة.

وها نحن أمام مشهد عبثي آخر من مشاهد المهنة الشريفة حين تسقط في يد من يظنها وسيلة للترقي السريع والربح المؤقت. من يفترض فيه أن يكون عين العدالة، صار يغمض عينيه عن القانون، ويكتب ما يحلو له، وكأننا في دفتر مذكرات لا في محضر تنفيذ. ومن يفترض فيه أن يُجسد الثقة، صار هو السبب في تعميق الشك.

القضية لا تفضح فقط مفوضاً بعينه، بل تضع منظومة كاملة تحت المجهر، وتطرح السؤال المحرج: من يراقب من؟ وكيف يُمكن الوثوق بمحضر يحمل توقيع شخص قد يُبدع في صياغة الواقع كما يُبدع الرسام في لوحة خيالية؟ بل أكثر من ذلك، ما عدد المحاضر الأخرى التي تم تنفيذها في “قهاوي” الوطن، ولم ينتبه أحد بعد؟

الضحك المرّ أن المفوض المعني ربما لا يزال يعتقد أنه ضحية “سوء فهم قانوني”، وأن نواياه كانت طيبة. لكن المحكمة، ويا للعجب، لم تدخل في لعبة النوايا، بل في وقائع دامغة، انتهت بضربة قلم إلى عام من الحبس النافذ.

هكذا إذن، في بلدٍ تحوّل فيه بعض الساهرين على تنفيذ الأحكام إلى ساهرين على تزويرها، لا يبقى أمام المواطن إلا أن يحتفظ بكاميرا مراقبة في كل زاوية من بيته، وشاهدين على كل لقاء، وربما تسجيل صوتي لكل تبادل، حتى إذا جاءه المفوض في مقهى، عرف أن يطلب منه القهوة أولاً، ثم يسأله: “بالمناسبة، عندك رخصة تنفيذ هنا؟”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.