بهلوانات السياسة: حين يصبح النضال قناعًا للارتزاق!

ضربة قلم
في المدن المغربية الصغيرة، حيث المقهى أهم من البلدية، وحيث خبر زواج “مي فاطنة” قد ينتشر أسرع من خبر ميزانية المجلس الجماعي، تنبت بعض الكائنات الانتهازية كما تنبت الفطريات بعد المطر. هؤلاء لا يزرعون ولا يحصدون، بل فقط يقتنصون، يتسلقون، ويعيدون تدوير أنفسهم بمهارة حرباء في معرض ألوان.
يبدأ المشهد مع أحدهم، وجه جديد على الساحة، لكنه يحمل موروثًا عريقًا في فنون الانتهازية. أولى خطواته كانت عبر بوابة حزب يساري، حيث اكتشف أن اليسار ليس مجرد أيديولوجيا، بل “فرصة عمل”. لم يكن الرجل مهتمًا بالعدالة الاجتماعية أو بالطبقات الكادحة، لكنه أدرك بسرعة أن رفع الشعارات أسهل بكثير من رفع الأثقال في ورشة حدادة. انضم إلى الحزب، ليس لأي سبب سوى أنه يمنحه “صفة”، ومن يدري؟ ربما توصية لوظيفة، أو حتى امتيازات قد لا تخطر على بال العمال الذين يدّعي الدفاع عنهم.
وها نحن أمام نموذج كلاسيكي: كاتب إقليمي لحزب يساري يمنح رشوة لتوظيف شقيقه. عبقرية؟ لا، بل مجرد انتهازية مفضوحة. فالسياسة بالنسبة له ليست قضية نضال، بل مجرد عمل جانبي مربح بنظام ‘الفريلانس’ ، ومن لم يجد مقعدًا في السوق، فليحجز لنفسه طاولة في حزب. كيف لا، وقد كان يتفنن رفقة “زملائه” في التسول باسم النضال، لجمع ما يكفي لسداد وجيبة كرائية لمقر الفرع، الذي غالبًا ما يكون خاوٍ إلا من طموحاتهم الجشعة.
لكن القصة لا تنتهي هنا، فالرجل طموح، ولا يكتفي بشريحة واحدة من كعكة الامتيازات. لذا، ينتقل بسلاسة من السياسة إلى الجمعيات. الجمعيات في هذه المدن الصغيرة أشبه بالمغارات السحرية، تفتح للداخلين إليها أبواب الدعم، والرحلات، والمشاركة في مؤتمرات دولية تحمل عناوين براقة مثل “التنمية المستدامة” و”تمكين الشباب”. الحقيقة؟ إنها حفلة تنكرية لسماسرة الدعم، الذين يعرفون كيف يحوّلون أي ملف اجتماعي إلى مشروع شخصي.
وبينما يركض الناس خلف لقمة العيش، يركض صاحبنا خلف فرص السفر. الإمارات؟ قطر؟ وحتى “الجبل الخالي”؟ لا مشكلة، فكل ما يحتاجه هو جمعية بملف شبه محترم، وبعض العبارات المنمقة حول “التمكين” و”التحديات”، وسيجد نفسه قريبًا في طائرة، بحقيبة سفر ممتلئة، ومصاريف إقامة مريحة على حساب مشروع لم يرَ النور قط.
أما الوجه الآخر للقصة، فيتجسد في “مناضل يساري” محلي، معروف بنهمه في اقتناص ممولي جلسات “الراح”. رجل لا يحركه همّ الطبقات المسحوقة، بقدر ما تحركه بوصلة الامتيازات. كان دائم البحث عن موارد تمويل إضافية، لكن بليته الأخطر لم تكن في السمسرة السياسية، بل في الجري خلف القاصرات بمدينة صغيرة تابعة لإقليم كبير، حيث الجميع يعرف الجميع. وكمثال صارخ على ذلك، فقد سبق أن اقتيد إلى مخفر الشرطة بتهمة التغرير بقاصر، بعد أن قضى ليلة معها في بيته، ليجد نفسه وحيدًا بعد أن تخلى عنه رفاق النضال، قبل أن يتدخل أحد أصدقائه لإغلاق الملف.
هذه النماذج تحسد رفاقها الذين قرروا أن “يُطبّعوا” مع المخزن بشكل علني، بدلاً من لعب دور “المعارض المكافح”. “فالأذكياء” منهم فهموا أن السباحة عكس التيار مجهدة، بينما الانضمام إلى التيار السائد يضمن لهم استمرار امتيازاتهم بلا عناء.
المثير في الأمر أن هذه الوجوه تجيد التظاهر بالبراءة. بل إن بعضها ينجح في خلق هالة من “اللطف” حوله، حتى ليظن الساذج أنهم ضحايا لمؤامرات كونية. لكن كما يقول المثل الشعبي: “ما يخرج من الواد غير حجره”. فالعقول الكبيرة التي تميز بين الغث والسمين لا تحتاج إلى كاميرا خفية لتكشف ألاعيبهم، لأن ألاعيبهم ليست مخفية أصلاً، بل هي على مرأى ومسمع، فقط مغلفة بقليل من اللباقة، وكثير من الوقاحة.
نقول هذا، ونحن على وعي بأن غالبية الشرفاء وأصحاب الضمائر الحية قد نفضوا أيديهم من هذه المعمعة، حيث بقي عدد قليل منهم يناضل بصدق، في زمن أصبح فيه النضال مجرد وسيلة “لتحقيق الذات“.
وإذ نحيي كل مناضل بريء من هذه الطينة الانتهازية، لا يسعنا إلا أن نتساءل: إلى متى ستظل هذه المخلوقات تتلون وتتنقل بين الحزب والجمعية والمنبر الخطابي دون أن يوقفها أحد؟ ربما تكمن الإجابة في وعي المجتمع، وربما سيأتي يوم يدرك فيه المواطنون أن من يرفع الشعارات بجانبهم في الساحات، هو نفسه من يوقع القرارات ضدهم في المكاتب.