بين النص والواقع… هل تصمد المسطرة الجنائية أمام اختبار العدالة الحقيقية؟

ضربة قلم
في لحظة سياسية وقانونية دقيقة، تلاقي فيها تطلعات العدالة مع صرامة الواقع القضائي، نظم مجلس النواب يومًا دراسيًا حول مشروع القانون رقم 03.23 المتعلق بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية، في مبادرة جمعت بين وزارة العدل، وزارة التعليم العالي، وجمعية هيئات المحامين، بشراكة مع لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان.
هذا اللقاء لم يكن تقنيًا فحسب، بل شكل منصة خصبة لتفاعل الرؤى بين القضاة، المحامين، الأساتذة الجامعيين، وممثلي السلطتين التنفيذية والتشريعية، حول جوهر المشروع وحدوده، في أفق بلورة تصور عملي لإصلاح المسطرة الجنائية.
تعديلات تنتظر التجسيد العملي
ناقش المشاركون مستجدات المشروع، التي توزعت بين: • توسيع صلاحيات الدفاع وضمان حضوره المبكر في مراحل البحث. • تقنين استعمال الوسائل الإلكترونية داخل المحاكمات. • ترشيد الاعتقال الاحتياطي. • إقرار تدابير بديلة للعقوبات السالبة للحرية. • دعم حقوق الضحايا داخل المسطرة الجنائية.
غير أن هذه التعديلات، رغم طابعها الإيجابي في ظاهرها، طرحت تساؤلات مشروعة حول مدى جاهزية البنية التحتية القضائية والتقنية لاستيعابها، ومدى وضوحها التشريعي بما يكفل توحيد الممارسة.
محطة للنقاش المؤسسي المفتوح
عرف هذا اليوم الدراسي حضور مسؤولين حكوميين وبرلمانيين وقضاة وأكاديميين، إلى جانب ممثلي هيئات الدفاع، مما أضفى على النقاش طابعًا مؤسساتيًا رصينًا، تميز بتعدد المقاربات واختلاف زوايا النظر.
وقد تناولت المداخلات قضايا جوهرية مرتبطة بضمانات المحاكمة العادلة، ترشيد الاعتقال الاحتياطي، توسيع دور الدفاع، إدماج الوسائل التكنولوجية في إدارة العدالة، وحماية الضحايا.
ورغم الترحيب العام بالتوجه الإصلاحي للمشروع، برزت العديد من التساؤلات حول مدى قدرة النص الجديد على تجاوز اختلالات التطبيق العملي، ومدى جاهزية البنية المؤسساتية لتنزيل مقتضياته على أرض الواقع.
المداخلة التي كسرت النمط: عبد العالي المصباحي يعيد تعريف “الإصلاح“
من بين اللحظات التي ميزت هذا اليوم، كانت مداخلة الدكتور عبد العالي المصباحي، رئيس رابطة قضاة المغرب وباحث في مجال النيابة العامة، والتي لم تكتف بمواكبة الجدل، بل قدمت قراءة بنيوية، تجاوزت الشكل إلى المضمون، والنص إلى الغاية، داعية إلى ثورة عقلية في فهم وتطبيق قواعد العدالة.
إصلاح يبدأ من اللغة: متى يصبح غموض النص خطرًا؟
المصباحي دق ناقوس الخطر بخصوص ما سماه بـ”الهندسة اللغوية المرتبكة” لبعض المقتضيات، حيث شدد على أن النصوص، في بعض جوانبها، تنطوي على غموض يهدد الأمن القانوني، ويفتح الباب أمام تأويلات متضاربة تفرغ الإصلاح من جوهره.
وأكد أن مسؤولية هذا الغموض لا يجب أن تُحمل للقضاة فقط، بل هي نتيجة مباشرة لضعف في إنتاج التشريع نفسه، ما يفرض مراجعة جذرية لآليات الصياغة القانونية.
النيابة العامة… من مجرد طرف إلى صمام أمان دستوري؟
في محور بارز، سلط المصباحي الضوء على التحول البنيوي الذي تعرفه وظيفة النيابة العامة، معتبرًا أنها لم تعد مجرد ممثل للاتهام، بل أصبحت ضامنًا أساسيًا للتوازن بين الأطراف، ولمشروعية الإجراءات.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، رأى أن النص التشريعي المقترح لم يساير هذا التحول بما يكفي، بل ظل حبيس منطق تقليدي يجعل من النيابة العامة أداة تنفيذ، أكثر منها سلطة قانونية مسؤولة.
عدالة رقمية… أم عدالة مختزلة؟
تناول المصباحي أيضًا المقتضيات المرتبطة بـ”المحاكمة عن بعد”، مؤكدًا أن الرقمنة لا يجب أن تتحول إلى ذريعة للإسراع في المحاكمات على حساب حقوق الدفاع.
وساءل بجرأة مدى استعداد البنية التحتية، والتأطير البشري، والتشريعات المواكبة، لتوفير شروط المحاكمة العادلة في زمن الرقمنة، محذرًا من خطر اختزال العدالة في شاشة، وحق الدفاع في بث مباشر.
التطبيق أولاً… ثم النص!
ربما كانت أقوى لحظة في المداخلة حين قال المصباحي: “أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن ننجح في تغيير النص ونفشل في تغيير الممارسة”.
انطلاقًا من هذه الفرضية، دعا إلى أن يصاحب الإصلاح القانوني خطة عمل شاملة لتأهيل المحاكم، تكوين العاملين في الميدان، وضمان التنسيق المؤسسي بين الضابطة القضائية والنيابة العامة، معتبرًا أن أي انفصال بين النظرية والممارسة هو إخفاق مُقنّع.
خاتمة: أي إصلاح نريد؟
في نهاية المطاف، مداخلة المصباحي لم تكن خطابًا احتجاجيًا، بل دعوة علمية ومهنية لإعادة النظر في مسار الإصلاح برمته.
الإصلاح لا يقاس بعدد الفصول المعدلة، بل بقدرة النص على إنتاج عدالة ذات معنى، تضمن المحاكمة العادلة، وتحمي حقوق الأفراد، وتحقق نجاعة الإجراء.
وهنا، يظهر التحدي الأكبر: كيف نصنع إصلاحًا حقيقيًا لا يتوقف عند عتبة البرلمان، بل يجد صداه في قاعات المحاكم، وفي وجدان المواطن الباحث عن عدالة لا تُرَى فقط في النصوص، بل تُعاش في الواقع؟