بين وهبي والراشدي.. معركة النزاهة أو تبادل الدومات؟ كيف دخلت الجمعيات في صراع المال والسلطة؟

ضربة قلم
حسنا، يبدو أننا أمام ملحمة جديدة من ملحمات الشفافية، حيث قرر وزير العدل أن يرتدي عباءة المحقق كونان، لكن هذه المرة ليس لملاحقة كبار الفاسدين، بل لتسليط الضوء على جمعيات المجتمع المدني. فمن يملك فيلا أو سيارة فاخرة؟ وكيف جمع هذا المال؟ وهل يعقل أن ينعم “فاعل جمعوي” بمثل هذه الرفاهية؟ تساؤلات مشروعة بلا شك، لكن الغريب أنها لم تُطرح عندما كانت سيارات المرسيدس السوداء تتدفق من أبواب السلطة نفسها.
الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، التي يبدو أن اسمها أطول من مدة فعالية قراراتها، ردت على الوزير بموقف متزن – أو هكذا بدا على الأقل – مفاده أن محاربة الفساد لا تقتصر فقط على الجمعيات، بل تشمل كل من يعبث بالمال العام. يا لها من ملاحظة ثورية! كأن أحداً لم يكن يعلم أن الفساد يتجاوز حدود المجتمع المدني ليصل إلى أماكن أكثر نفوذاً، حيث تُعقد الصفقات خلف الأبواب الموصدة.
وبينما يتجادل الطرفان حول من يستحق المحاسبة أولاً، يظل المواطن البسيط جالساً أمام شاشة التلفاز، يحتسي شايه المنعنع، ويبتسم ساخراً: “ومن سيحاسب من؟”. هل سيُحاسب السياسي الذي أمضى سنواته في خدمة الشعب (بالمعنى العقاري للكلمة) أم الجمعية التي ربما استلهمت أساليبها من جهات أكثر احترافية في إدارة الصفقات؟ الفرق بين الاثنين يكاد يكون منعدماً، فكلاهما في النهاية يُجيد فن تبرير الامتيازات التي يحظى بها.
أما وهبي، فقد أتحفنا بمحاضرة فلسفية عن الفرق بين محاربة الفساد بعقلية ستالينية وبين مكافحته بمنهجية ديمقراطية قانونية. يبدو أن الأمر لم يعد يتعلق فقط بالإثراء غير المشروع، بل أصبح درساً في الفلسفة السياسية! وهكذا، يتكرر نفس المشهد الكلاسيكي: تصريحات نارية، سجالات إعلامية، توصيات “مهيكلة”، ونقاشات “عميقة” حول الإحصاءات والمقاربات الدولية، لكن في النهاية، تبقى الأمور على حالها، والجميع يذهب إلى بيته مرتاح الضمير.
أليس من المثير للسخرية أن وزير العدل ذاته يرفض تجريم الإثراء غير المشروع، ثم يعود ليطالب بمحاسبة الجمعيات على أموالها المشبوهة؟ يا لها من مفارقة! ربما كانت تلك الجمعيات ستتجنب كل هذا الجدل لو اختارت الاستثمار في مجالات أخرى أكثر أماناً، مثل شراء أراضٍ “بأثمنة مناسبة” أو الدخول في “شراكات استراتيجية” مع بعض الجهات النافذة.
وفي النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل نحن أمام إرادة حقيقية لمحاربة الفساد، أم مجرد حلقة جديدة من مسلسل “محاربة الفساد عند الصغار وتجاهله عند الكبار”؟ الإجابة، كما العادة، ستظل معلقة في الهواء، تماماً كما هو حال كل مشاريع الإصلاح التي تبدأ بتصريحات نارية وتنتهي في أدراج النسيان.