تحت المطر… الوطن يتيه في عيون طفلة

ضربة قلم
كانت تمشي وحدها، بين السوق البلدي والمقبرة القديمة، حافية القدمين، تحمل كيسًا بلاستيكيًا مهترئًا، فيه قطع خبز يابسة وبعض القنينات الفارغة.
لم تكن تتسوّل.
ولم تكن تلعب.
ولم تكن تنتظر أحدًا.
كانت فقط تمرّ. كأنها ظلّ، كأنها لا تنتمي إلى هذا العالم.
اقترب منها أحد المارّة وسألها:
– “فين ساكنة، بنتي؟”
أجابت دون أن ترفع رأسها:
– “كنبات فجنب حيط المدرسة، حيت داك البلاصة كتبرد مزيان فالليل.”
ثم ابتسمت.
تسكن في ظل جدار.
تحلم في ظل وطن.
وتنام على حجر.
عمرها لا يتجاوز التاسعة. لا تذكر اسم أبيها، أما أمها فقد “سافرت عند ربي” بعد مرض لم ينفع معه دواء. وأما الجيران، فقد أغلقوا الأبواب حين بدأت “تفوح رائحة الفقر”، وصاروا يرمقونها كأنها مرض معدٍ.
قالت ذات مرة بصوت خافت:
– “أنا ما بغيت والو… غير نبقى صغيرة باش ما نخافش بوحدي فالليل.”
وفي ليلة مطيرة، شوهدت تلك الطفلة جالسة قرب الحائط، ترتجف، تحمل دميتها البلاستيكية المكسورة، وتغني لها أغنية كانت أمها ترددها حين تهدهدها.
ومع الفجر…
وجدها أحد عمال النظافة.
ملتفّة على نفسها، يداها زرقاوان من البرد، وجفناها نصف مغمضين…
لم تكن ميتة، لكنها كانت قد ودّعت الحياة.
أُدخلت إلى المستشفى، وذُكر أنها نجت، لكن…
حين حاول الطبيب أن يكلمها،
لم تتكلم.
لم تبكِ.
لم تبتسم.
كانت تنظر فقط… كأن الحياة أصبحت مشهدًا لا يعنيها.
الدرس القاسي
هذه ليست فقط قصة عن الفقر…
بل عن النسيان.
عن بلد يُفتّش عن “مستقبل رقمي”، بينما ينام ماضيه في الشوارع… بردانًا، جائعًا، ومنسيًّا.
هي ليست قصة طفلة واحدة، بل حكاية جيل بأكمله.
جيل يصنع الحياة من البلاستيك، والدفء من الكرتون، والحلم من الصمت.
إن لم تبكِ عيناك، فقد يكون قلبك قد انكسر في صمت…
لأن بعض القصص لا تحتاج دموعًا لتكون موجعة، بل يكفي أن تُحسّ بثقلها في صدرك، أن تبتلع الغصة، أن تمرّ بجملة واحدة فتشعر أنها تذكّرك بشيء مدفون فيك.
هي ليست مجرد “قصة بنت مشرّدة”…
إنها مرآة لبلد يُراكم الأحلام في قاعات المؤتمرات، ويترك الأطفال وحدهم تحت المطر.
وإن كنت ما تزال تتساءل: “هل بكيت؟”
فربما السؤال الأصدق هو:
هل نسيت بعد؟