تحصيل الديون الجماعية.. عندما تصبح الجماعات رهينة المخلوضين والمتهربين!

ضربة قلم
في خطوةٍ تشبه البحث عن إبرةٍ في كومة قش، دشّن عددٌ من عمال الأقاليم اجتماعاتٍ مكثفة، ضمّت مسؤولين جماعيين عن التحصيل والوعاء الجبائي وقباضًا وأطر الشؤون الاقتصادية، في محاولةٍ لتدارك ما يمكن تداركه قبل أن تغرق الجماعات الترابية في مستنقع العجز المالي.
الهدف المعلن؟ تسريع عملية تحصيل الديون المتراكمة على ذمة نافذين ومنتخبين سابقين وحاليين، الذين لطالما اعتبروا دفع الضرائب والجبايات الجماعية خيارًا شخصيًا وليس التزامًا قانونيًا. غير أن هذه الاجتماعات تأتي على وقع تعليمات صارمة من وزير الداخلية الذي قرر – بعد طول انتظار – أن الوقت قد حان لضبط موارد الجماعات الترابية قبل توزيع حصص الضريبة على القيمة المضافة الجديدة. ويبدو أن “التصدي لاختلالات التباطؤ” أصبح موضة الموسم في أروقة الجماعات.
وحسب مصادر عليمة، فإن الاجتماعات الأخيرة كشفت عن أرقام صادمة فيما يخص “الباقي استخلاصه”، حيث تتصدر بعض الجماعات قائمة المتقاعسين عن تحصيل حقوقها، في تعارضٍ صارخ مع مقتضيات القانون رقم 47.06 الخاص بجبايات الجماعات الترابية. فبينما تُطالب المقاولات الصغرى والباعة المتجولون في الأسواق الأسبوعية بأداء رسومهم فورًا، يستمتع بعض المنتخبين وأصحاب النفوذ بإعفاءات غير معلنة، بحكم أنهم هم من يقررون من يدفع ومن يُعفى، فيما تستمر الجماعات في انتظار الكرم الحكومي لسد عجزها.
وكما هي العادة، لم يأتِ هذا التحرك من فراغ، فقد تسربت إلى المصالح المركزية لوزارة الداخلية تقارير من أقسام “الشؤون الداخلية” بالعمالات، كشفت عن شبهات محاباة سياسية وانتخابية في تدبير ملفات الديون. بعض الجماعات، التي تعاني من اختناق مالي منذ سنوات، لم تكلف نفسها حتى عناء إدراج نقطة “تحصيل المديونيات” في جدول أعمال دوراتها، وكأن الأمر يتعلق بأموال افتراضية لا تمس قدرتها التشغيلية.
أما المفارقة الكبرى، فتكمن في أن بعض المنتخبين الذين يفترض أنهم أول من يحرص على مصلحة الجماعات، تبين أنهم أكثر المدينين تهربًا. فكيف لجماعة أن تلاحق المواطنين البسطاء على رسوم بسيطة، بينما تتجاهل ديون أصحاب المطاعم والمقاهي والعقارات الفخمة، لمجرد أنهم يضعون شارات العضوية في المجالس الجماعية؟
وفي ظل هذا العبث، يبدو أن اللجان التفتيشية التابعة للمفتشية العامة للإدارة الترابية بدأت تفقد صبرها، بعدما رصدت حالاتٍ صارخة لتهرب جبائي واستغلال النفوذ، إذ أن بعض المنتخبين يمارسون السياسة بعقلية “خذ ولا تعطي”، متناسين أن الجماعة ليست حسابًا بنكياً شخصياً يمكن السحب منه دون إيداع.
وبالنظر إلى هذه الفوضى المنظمة، لم يكن غريبًا أن تستنفر وزارة الداخلية ولاة وعمال البلاد لتزويدها بتقارير مفصلة حول القضايا الجبائية العالقة، بل طالبتهم بتوضيح ملابسات الأحكام الصادرة ضد الجماعات، وكأنها تسألهم: “كيف خسرتم هذه القضايا بهذه السهولة؟”. ولأن بعض الجماعات تفتقد حتى للحد الأدنى من الحكامة القانونية، فقد أصبحت فريسة سهلة أو لعبت هذا الدور أمام المحاكم التي ألغت رسومًا ضخمة بسبب سوء التدبير وانعدام الكفاءة.
في النهاية، قد يبدو المشهد مألوفًا: مسؤولون يعقدون اجتماعات، تقارير تُرفع، تهديدات تُطلق، ثم يعود الجميع إلى قواعدهم سالمين. لكن السؤال الذي يظل معلقًا: هل سيتمكن العمال هذه المرة من تحصيل هذه الديون فعلًا، أم أن كبار المدينين سيجدون كالعادة طريقة جديدة للهروب؟