تشي غيفارا في الأمم المتحدة 1964: بين أسطورة “كلمتين” وحقيقة خطاب هزّ العالم

محمد أبناي
في عالم تُختصر فيه الرموز في جملٍ وشعارات، تحوّلت لحظة تاريخية إلى “أسطورة قصيرة” تقول إن تشي غيفارا، الثائر الأرجنتيني الذي دوّخ الإمبرياليات الكبرى، صعد إلى منبر الأمم المتحدة سنة 1964 وقال عبارتين فقط: “الحرية أو الموت”، ثم غادر القاعة تاركًا العالم في ذهول.
غير أن الحقيقة، كعادتها، أكثر عمقًا وأقل رومانسية.
الحدث الحقيقي: 11 دجنبر 1964
في صباح شتوي من شهر دجنبر 1964، دخل “إرنستو تشي غيفارا” إلى مقرّ الأمم المتحدة بنيويورك ممثّلًا لجمهورية كوبا الفتية، التي كانت حينها محاصَرة اقتصاديًا وسياسيًا من طرف الولايات المتحدة.
كان العالم يعيش أوج الحرب الباردة: المعسكر الشرقي بزعامة موسكو، والمعسكر الغربي بقيادة واشنطن، فيما كانت كوبا قد صارت شوكة في خاصرة أمريكا بعد انتصار ثورتها سنة 1959.
غيفارا، بزيّه العسكري الأخضر وبهيبته الثورية الهادئة، صعد إلى المنبر وتحدّث بلغة لا تشبه الدبلوماسية السائدة.
خطابه استمرّ قرابة الساعة الكاملة، ولم يكن أبدًا من كلمتين كما يُروّج البعض.
في كلمته، هاجم سياسة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وأدان القصف الأمريكي ضد فيتنام، وانتقد بشدة تدخل واشنطن في أمريكا اللاتينية.
كان خطابه صرخة عالمية في وجه الظلم والهيمنة، ومرافعة إنسانية عن حق الشعوب في تقرير مصيرها.
أسطورة “الحرية أو الموت”
العبارة التي خُلدت من ذلك الخطاب لم تكن “الحرية أو الموت” كما يعتقد كثيرون، بل كانت بالإسبانية:
“¡Patria o muerte!”
أي: “الوطن أو الموت!”
هذه الجملة أصبحت شعارًا ثوريًا خالدًا، وردّدها الكوبيون لاحقًا في كل مسيراتهم.
لكن من المثير أن أصل العبارة يعود إلى الزعيم فيديل كاسترو الذي استخدمها لأول مرة سنة 1960 بعد تفجير السفينة الفرنسية La Coubre في ميناء هافانا، حيث قُتل عشرات المدنيين.
أما تشي، فقد أعاد إطلاقها في الأمم المتحدة، لتصبح شعارًا أمميًا يرمز إلى المقاومة والثبات على المبدأ.
بين الحقيقة والأسطورة
انتشار فكرة أن غيفارا قال كلمتين فقط يعود إلى مقاطع قصيرة جرى تداولها لاحقًا على الإنترنت، تُظهره يقترب من المنبر، ينطق العبارة الشهيرة، ثم يرحل.
لكن هذه المقاطع مقطوعة من خطاب طويل، واستُخدمت بطريقة ترويجية لتكثيف رمزية الرجل في لقطة واحدة.
الأسطورة جميلة بلا شك، لكنها تُظلم الحقيقة التاريخية: فغيفارا لم يكن خطيبًا انفعاليًا، بل كان مفكرًا ثوريًا ذا بنية فكرية واضحة، يستند إلى تحليل اقتصادي وسياسي دقيق، لا إلى صرخات عابرة.
رسالة إلى العالم
في خطابه ذاك، لم يوجّه غيفارا كلماته إلى أمريكا وحدها، بل إلى كل الشعوب المستعمَرة والمضطهَدة، قائلاً:
“لا يمكننا أن نثق في الإمبريالية ولو قدر ذرّة.”
ثم ختم بالعبارة التي دوّت في القاعة:
“¡Patria o muerte, venceremos!”
أي: الوطن أو الموت… سننتصر!
عبارة جعلت المترجمين يتوقفون لحظة، وجعلت الصحفيين الغربيين ينظرون بدهشة إلى هذا الطبيب القادم من الأدغال، الذي يتحدث إلى الأمم المتحدة وكأنه يخاطب التاريخ نفسه.
تشي غيفارا اليوم: من الثورة إلى الأيقونة
بعد أقل من ثلاث سنوات على ذلك الخطاب، قُتل غيفارا في بوليفيا سنة 1967، لكن صورته ما زالت ترفرف على الجدران والقمصان والشعارات في كل القارات.
تحوّل إلى أيقونة عالمية للتمرد والكرامة الإنسانية.
وربما لهذا السبب صمدت تلك “الأسطورة” حول عبارتيه القصيرتين، لأنها تختصر الرجل كلّه في كلمتين، كما تختصر النار في شرارة.
بين الكلمة والسلاح
حين قال تشي في الأمم المتحدة “الوطن أو الموت”، لم يكن يلقي شعارًا بل كان يُلخّص فلسفته كلها:
إما أن يعيش الإنسان حرًّا على أرضه، أو أن يموت واقفًا دون أن ينحني.
ولهذا، لم يكن خطابه مجرّد حدث سياسي، بل درس في الشجاعة الأخلاقية، وفي كيف يمكن لكلمة أن تهزّ قاعات الأمم المتحدة أكثر مما تهزّها قنبلة.
خلاصة القول:
أسطورة “كلمتين فقط” جميلة، لكنها غير صحيحة تاريخيًا.
أما الحقيقة، فهي أن تشي غيفارا ألقى خطابًا من أقوى ما سُجّل في تاريخ الأمم المتحدة، ختمه بعبارة أصبحت شعارًا للثورات عبر القارات:
الوطن أو الموت… سننتصر.


