سياسةمجتمع

تضارب المصالح: الهيئة تحارب الفساد… والفساد يوقّع عقد الشراكة!

حين تتحول محاربة الفساد إلى صفقة... يصبح الشريك هو المتهم!

ضربة قلم

لم تمرّ سوى بضع ساعات على إعلان الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها عن توقيف صفقة إعداد “خريطة مخاطر الفساد في قطاع الصحة”، حتى اهتزّت مواقع التواصل، واشتعلت المنابر كما لو أن الفساد نفسه استيقظ متسائلًا: “من تجرأ على رسم ملامحي بهذه الدقة؟”.

القصة، ببساطة معقدة، تشبه مشهدًا من فيلم مغربي واقعي جدًا:
صفقة بقيمة 2.4 مليون درهم لإعداد خريطة تحدد بؤر الفساد داخل قطاع الصحة، يفوز بها مكتب استشاري محترم، قبل أن يكتشف الرأي العام أن هذا المكتب ذاته يشرف على تدقيق الحسابات لمجموعة خاصة في القطاع الصحي اسمها “أكديطال”… أي أن من يرسم الخريطة هو من يسكن داخلها!
كأننا نسند مهمة إعداد تقرير عن خطر السمنة إلى صاحب مطعم يقدم وجبات “البرغر” بأحجام عائلية!

ولأن الهيئة الوطنية للنزاهة – مشكورة – لا تنام على الضجيج، سارعت إلى فرملة الصفقة قبل أن تتحول “خريطة الفساد” إلى فساد في الخريطة.
بلاغها كان أنيقًا في لغته، رسميًا في نبرته، مليئًا بكلمات مطمئنة مثل الشفافية، النزاهة، المعايير الدولية، تكافؤ الفرص… إلى آخر معجم الفضائل التي نحفظها جميعًا نظريًا، ونعلّقها على الجدران عمليًا.

لكن، بعيدًا عن الكلمات المطمئنة، ما أزعج المغاربة هو الإحساس بأننا أمام مشهد مكرر:
كلما اقتربنا من “تضارب المصالح”، يظهر وجه المال في جيب السياسة أو العكس.
وكأن الدولة باتت شركة مساهمة، والحكومة مجلس إدارتها، والوزارات مجرد فروع “تجارية” تحت شعار: نخدم الوطن… ولكن عبر مقاولاتنا!

الهيئة الوطنية للنزاهة أكدت أنها ستتريث، وستجري “بحثًا معمقًا” حول المزاعم المتداولة.
لكن المغاربة، وقد خبروا طول أبحاثنا وعمقها الذي يشبه بئرًا بلا قاع، صاروا يسخرون بمرارة:
“عندما يبدأ التحقيق، نعرف أننا في بداية النسيان”.
أما قرار التوقيف، فصار يُقدَّم في الإعلام كـ“دليل على الاستقلالية واليقظة”، بينما المواطن يرى فيه مجرد صفقة توقفت… لا لأننا نرفض الفساد، بل لأن الفساد لم يتفق بعد على السعر!

في العمق، البلاغ – رغم لغته الرصينة – يفضح واقعًا مقلقًا:
بلد لا زال يبحث عن خريطة للفساد، بعد عقود من الخطابات حول محاربته.
فهل يحتاج الطبيب إلى خريطة ليعرف أين الداء؟
وهل نحتاج إلى مكتب استشاري ليخبرنا أن الفساد في الصفقات العمومية يبدأ من “التوقيع” ولا ينتهي عند “التبرير”؟

الهيئة قالت إنها ملتزمة بمبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص، وهو كلام جميل يستحق التصفيق، لكن المواطن المسكين لا يسمع سوى صدى جملة واحدة تتكرر منذ عقود:
“تم فتح تحقيق…”
ولا شيء يُغلق بعدها سوى فم المواطن نفسه، حين يملّ من الانتظار.

في النهاية، يبقى هذا الحدث دليلًا على مفارقة مغربية أصيلة:
نحن لا نحارب الفساد… نحن ننظّم له مؤتمرات، ونعقد له صفقات، ونرسم له خرائط!
حتى بات الفساد نفسه يحس بالملل من كثرة الدراسات حوله، ويطالب بتقاعد شريف بعد كل هذه السنوات من الخدمة العمومية المخلصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.