دفاتر قضائية

تفويت بثمن التراب في الهرهورة: هل تكسر المحكمة حلقات الفساد الصامت؟

ضربة قلم

في تطور لافت لقضية من القضايا التي تكشف عن مكامن الخلل العميق في تدبير الأملاك العمومية بالمغرب، قررت غرفة جرائم الأموال بمحكمة الاستئناف بالرباط إعادة فتح ملف تفويت عقارين في منطقة الهرهورة الساحلية، بعدما أمرت بإجراء خبرة قضائية جديدة تعيد تقييم الأضرار المفترضة الناتجة عن تفويت أراض بثمن لا يرقى إلى القيمة السوقية الحقيقية. هذا القرار القضائي يعكس إدراكًا متزايدًا لخطورة ممارسات اعتاد البعض تمريرها تحت غطاء الإجراءات الإدارية، لكنها في الجوهر قد تشكل حالات صريحة من الفساد واستغلال النفوذ.

القضية تعود إلى سنة 2006، حين تم تفويت عقارين (رقمي الرسم 51908 و88785) بثمن لا يتجاوز 193 درهما للمتر المربع، في حين كانت قيمتهما الحقيقية، بحسب التقديرات السابقة، تناهز 9.7 ملايين درهم. هذا الفارق الصادم، الذي يفوق 6.6 ملايين درهم، أعاد طرح سؤال مركزي حول نزاهة صفقات التفويت التي تطال ممتلكات الدولة، خصوصًا في مناطق ذات قيمة عقارية مرتفعة مثل سيدي العابد بجماعة الهرهورة.

وقد جاء تحرك القضاء بعد أن تبين تعذر الاستماع إلى الخبير الذي أنجز التقييم الأول نتيجة وفاته، مما فتح الباب أمام تكليف خبير جديد بإعادة التقدير، مع أمل أن تسهم هذه الخطوة في تبديد الشبهات أو تأكيدها، وفقًا لما ستسفر عنه نتائج الخبرة المنتظرة قبل جلسة 12 ماي المقبل. خلف هذا المسار التقني، تلوح معركة قانونية ومالية شرسة، حيث نصبت شركة “العمران” نفسها طرفًا مدنيًا للمطالبة بتعويض قدره مليار و200 مليون سنتيم، وهي قيمة لا تعكس فقط ما ضاع نظريًا، بل أيضا حجم التصدع الذي أصاب ثقة المواطنين في مؤسسات من المفترض أن تحمي المال العام لا أن تعرضه للتبديد.

غير أن ما يكشف خطورة هذه الواقعة يتجاوز مسألة السعر الزهيد في عملية بيع العقارين، ليمتد إلى السياق الذي جرت فيه الصفقة؛ إذ تأسست جمعية سكنية سنة 2009 من طرف تسعة مدراء وخمسة أطر ينتمون لشركة العمران، لتشكل الواجهة القانونية لاقتناء البقع العقارية بأثمان رمزية. الأسوأ أن تحقيقات المجلس الأعلى للحسابات كشفت لاحقًا أن بعض هؤلاء كانوا جزءًا من لجنة تقييم الأسعار ذاتها، في تضارب فادح للمصالح يكشف عن خلل بنيوي في منظومة الحكامة، وعن حالة من الاطمئنان السافر إلى الإفلات من العقاب.

بعد عملية التفويت، لم يتوان المستفيدون في تقسيم الأراضي وتشييد مشاريع عقارية فاخرة عليها، أو إعادة بيعها وتحقيق أرباح ضخمة، ضاربين بعرض الحائط كل الاعتبارات الأخلاقية والقانونية التي تفرضها مناصبهم ووظائفهم. هذه المعطيات تؤكد أن القضية لم تكن مجرد “خطأ إداري” بل جزء من منطق نسقي يرى في الأموال العامة فرصة للإثراء السريع بلا مساءلة.

ولئن كانت الملفات المرتبطة بتفويت عقارات الدولة قد شكلت دائمًا اختبارًا حقيقيًا لمدى جدية مكافحة الفساد بالمغرب، فإن هذه القضية بالذات تمثل حالة نموذجية تختبر استقلالية القضاء، وقدرته على مساءلة المتورطين مهما كانت مواقعهم. فالتصدي لمظاهر التلاعب في المال العام لا يكفي فيه استعراض النصوص القانونية، بل يتطلب إرادة حقيقية لتطبيق القانون وتجفيف منابع المحاباة واستغلال النفوذ.

وسط هذا المشهد، تبرز أيضًا ملاحظة إنسانية لا تخلو من دلالة: أحد المتابعين في هذا الملف موظف بسيط، كشفت التحقيقات عدم تورطه في أي من مراحل التقييم أو التفويت، ما دفع دفاع شركة العمران إلى المطالبة ببراءته استنادًا إلى قاعدة شخصية المسؤولية الجنائية. في مقابل ذلك، يظل المتورطون الحقيقيون ممن تلاعبوا بثقة المؤسسة العمومية ومصالحها محل متابعة قضائية، في انتظار أن تقول العدالة كلمتها الأخيرة بناءً على نتائج الخبرة القضائية الجديدة.

إن هذه القضية، بما تحمله من تفاصيل وأبعاد، تضع الرأي العام أمام مرآة مؤلمة لحجم الاختلالات التي قد تعصف بمقدرات الدولة في غفلة من المساءلة، وتطرح مجددًا سؤالاً جوهريًا: هل تكون هذه المحاكمة مجرد محطة عابرة أم بداية حقيقية لمساءلة حازمة تطال الفساد أينما كان ومن أي جهة صدر؟

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.