تقارير”الديستي”… بين التوثيق ورد الفعل!

ضربة قلم
في أروقة المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، المعروفة اختصارًا بـ”ديستي”، تدور عجلة التقارير بلا توقف، تحصي الأنفاس قبل الخطوات، وتغوص في دهاليز المؤسسات العمومية والخاصة على حد سواء. تحقيقات موسعة تطال كل المصالح الخارجية المحسوبة على الوزارات بما فيها قضاة مختلف المحاكم ورجال الأمن بمختلف درجاتهم، ترصد أنشطة السياسيين والنقابيين والصحافيين والمتطرفين، وتمتد إلى كل ما يثير شهية التقصي والكتابة، وكأن عين الرقابة لا تنام.
لكن، في خضم هذا الزخم، يطرح سؤال جوهري: إلى أي مدى تؤثر هذه التقارير على دوائر القرار؟ هل تجد صدى لدى كبار المسؤولين، أم أنها تظل حبيسة الأدراج، يُكتفى بتكديسها كأرشيف يعزز ثقافة التوثيق لا أكثر؟ لقد سبق أن همس أحد الظرفاء قائلاً: “حين لا نجد ما نكتبه، نكتب عن أنفسنا. المهم، إن العداد يدور”. وهي نكتة سوداء تعكس واقعًا، حيث قد تتحول الكتابة عن الآخرين إلى غاية في حد ذاتها، بغض النظر عن الجدوى العملية لهذه المعلومات.
ومن زاوية أخرى، فإن هذه التقارير ليست مجرد أوراق عابرة؛ فهي تساهم في توجيه أجهزة الدولة نحو مكامن الخلل، سواء في صفقات مشبوهة تمرر بطرق ملتوية، أو في التلاعب بالسير العادي للجماعات الترابية، أو حتى في ظواهر غير مسبوقة مثل فساد بعض رجال التعليم الذين أصبحوا يعرضون خدمات الحصول على الدكتوراه بالمقابل، وكأن العلم تحول إلى سوق سوداء تباع فيه الدرجات الأكاديمية لمن يدفع أكثر. هذا، دون الحديث عمن أعد بشأنهم مجلس اصطلح على تسميته بالمجلس التأديبي بوزارة العدل.
ولكن يبقى التساؤل الكبير: هل تُتخذ إجراءات فعلية بناءً على هذه التقارير؟ وهل تحفز القضاة في المجلس الأعلى للحسابات على التحرك بجدية أكبر تجاه ملفات الفساد؟ أم أن هذه الكتابات، رغم كثافتها، تظل مجرد “صوت في الفراغ”، يُسمع لكنه لا يُترجم إلى قرارات حازمة؟
إن منطق المراقبة الأمنية يقتضي الفعل لا الاكتفاء بالتوثيق، فالغاية من جمع المعطيات ليست فقط رصد التجاوزات، بل اتخاذ الخطوات العملية لمعالجتها، وإلا تحولت هذه الآلية إلى مجرد تمرين إداري روتيني، يُشغل الأجهزة لكنه لا يغير الواقع. وربما هنا يكمن التحدي الحقيقي: كيف تتحول هذه التقارير من بيانات مرصودة إلى أدوات فاعلة تضع حداً للفساد وتعيد التوازن للمؤسسات؟