تُغلق السياسة أبوابها في وجه الشباب وتلومهم على العزوف!
تسييس الشباب لم يعد خيارًا... بل شرطًا لبقاء السياسة على قيد الحياة!

ضربة قلم
في زمن يُكثر فيه الحديث عن الأزمات السياسية والانحدار الأخلاقي في الفعل العمومي، تطرح مسألة تشبيب الحياة السياسية أو بالأحرى تسييس الشباب نفسه بإلحاح، ليس فقط كرهان مستقبلي بل كضرورة آنية واستراتيجية وجودية. فبقدر ما نتحدث عن تجديد النخب وضخ دماء جديدة في الشرايين المتصلبة للأحزاب والمؤسسات، علينا أن نتوقف عند سؤال أعمق: هل نريد فعلاً شباباً يمارسون السياسة؟ أم نريد فقط شباباً يُجمّلون صور الحملات الانتخابية ويُزيّنون المنصات حين يحين وقت الترويج لبرامج جوفاء؟
إن الزمن السياسي المغربي والعربي عامة، يمر من مرحلة فراغ رهيب في المعنى، حيث فقدت الكلمات بريقها، والمفاهيم معناها، والمؤسسات اتصالها بالناس. وما كان للشباب أن ينفر من السياسة لو أنه رأى فيها أفقًا للكرامة والمشاركة والفاعلية. لكن، كيف له أن يصدق ذلك، وهو يرى الساحة تحتكرها وجوه متكلسة، إما تستهين به أو تُوظّفه كأداة تجميل ظرفية؟ بل أكثر من ذلك، حين نلحّ على تشبيب السياسة، فإننا غالبًا ما نخلط بين الشكل والجوهر: بين شاب يلبس بدلة وربطة عنق ويتقن الخطابة، وبين شاب يحمل مشروعًا فكريًا، ووعيًا تاريخيًا، وإحساسًا بالمسؤولية، ومناعة فكرية تجعله يقاوم الإغراء والارتهان.
ولعل أول ما يجب التنبيه إليه، هو أن دعوة الشباب إلى الانخراط السياسي لا تعني استقدامهم إلى مقاعد حزبية لا تزال تدار بعقلية “الزعيم الأب” و”البيعة التنظيمية”. كما لا تعني أن نُحضرهم لنُلقنهم فن الصمت والولاء الأعمى، أو لنعلمهم كيف يقتاتون من الهبات السياسة. إن تسييس الشباب بمعناه النبيل، هو أن نفتح أمامهم دروب التفكير النقدي، ومجالات الفعل العمومي الحقيقي، وأن نمنحهم أدوات الفهم والتحليل، وأن نشجع فيهم روح الرفض والتساؤل والمقاومة السلمية ضد الرداءة والزبونية والفساد. فالشاب الذي ينخرط سياسيًا دون أن يمتلك مناعة فكرية هو مشروع انتهازي جديد، أما ذاك الذي يُشهر وعيه في وجه التوجيهات الجاهزة، فهو بداية الخلاص من العقم السياسي.
من الخطأ الفادح أن نطلب من شبابنا أن يشاركوا في السياسة ونحن لم نوفر لهم شروط الوعي بها. لم نربهم على النقاش العمومي، ولا على الاستقلالية الفكرية، بل زودناهم بنظام تعليمي يكافئ الحفظ ويقتل النقد. ثم نرغب فجأة في أن يتحولوا إلى قادة ومسؤولين ومشرعين! كيف لشاب لم يُدرَّب على التفكير الحر، أن يكون فاعلاً سياسياً ذا موقف؟ كيف لمن نشأ في وسط يجرّمه لمجرد طرح أسئلة وجودية أو مساءلة السلطة أن يصبح حامل مشروع مجتمعي؟ إن تسييس الشباب لا يعني فقط وضعهم على رأس اللوائح، بل يستلزم ثورة ثقافية وتربوية تبدأ من المدرسة، وتُستكمل في الجامعة، وتُترجم في الإعلام، وتُرعى في المجتمع.
يجب أن “لا تكون أمعاؤهم زرقاء”، لأنها تلخيص بليغ لشرط أخلاقي كان يجب أن يكون بديهيًا، لكنه صار استثناءً: أي أن لا يكون الشباب أيضا ممن وُلدوا وفي أفواههم ملاعق من ولاء، وأن لا يركضوا نحو المناصب برائحة الصفقات، وأن لا يتحولوا إلى نسخ مطورة من نفس الوجوه القديمة، فقط مع جلد أكثر شبابًا. هؤلاء ليسوا قادة، بل أقنعة جديدة لنفس النظام القائم على الاستهلاك السياسي، على المحاباة، على الخطابات الفارغة، وعلى تحويل العمل الحزبي إلى ماكينة انتخابية لا تؤمن إلا بالأرقام والمقاعد.
الرهان الحقيقي ليس في أن نأتي بشباب إلى السياسة، بل أن نُغيّر السياسة ذاتها لتكون جديرة بالثقة، صالحة للحياة. لأن السياسة كما هي الآن، تدفع بالعقلاء إلى الانسحاب، وبالأنقياء إلى النفور، وبالأنقياء الذين قرروا البقاء إلى التلوث التدريجي. المطلوب إذن هو إعادة بناء الفضاء السياسي برمّته: قانونيًا، وأخلاقيًا، وتواصليًا. مطلوب إصلاح الأحزاب من الداخل، بإرادة حقيقية لا مساحيق تجميل؛ مطلوب فتح آفاق أمام الشباب ليصوغوا لغتهم، ويخلقوا تنظيماتهم إن اقتضى الأمر، وليفرضوا قضاياهم لا كملحق، بل كأولويات وطنية: السكن، التشغيل، الحريات الفردية، البيئة، العدالة المجالية، والتعليم العمومي… فهذه هي السياسة، لا شعارات المرحلة ولا صور الحملات.
إن الشباب لا يحتاجون إلى دعوات تجميلية للدخول في السياسة، بل إلى احترام حقيقي، واستماع صادق، وإيمان بأنهم قادرون على التغيير إذا ما أُعطيت لهم الثقة والفرصة والشرعية. يكفي أن نكف عن معاملتهم كقاصرين فكريًا، أو كأدوات للاستعراض الإعلامي. نحتاج إلى شباب يفكرون بأصواتهم لا بصدى من سبقهم، يختارون معاركهم لا يُزجّ بهم في معارك لم يصنعوها، يبتكرون أدواتهم بدل أن يُمنحوا أدوات مستعملة.
في النهاية، لا خوف على البلاد التي تُمكّن شبابها من الحلم والنقد والفعل، بل الخوف كل الخوف من تلك التي تُشيخ السياسة وتُصغر الهمم، وتُغلق النوافذ في وجه جيل بأكمله، ثم تتساءل بدهشة: لماذا لا يصوت الشباب؟ لماذا لا يثقون في السياسة؟ لماذا يتجهون نحو الهجرة أو الانطواء أو التطرف؟ الجواب بسيط ومُرّ: لأنكم سددتم في وجوههم كل منافذ الحياة، ثم طلبتم منهم أن يتنفسوا.