ثمن البداية: قصة قصيرة من واقع الحياة

وفاء الزناتي
وقف ياسين أمام باب المستشفى، يحدّق في البوابة الزجاجية التي تعكس صورته المرهقة. كان جسده منهكًا وروحه أكثر تعبًا. منذ ساعات، دخلت زوجته إلى غرفة الولادة، وبعد دقائق طويلة من الترقب والقلق، سمع صرخة طفله الأول. تلك الصرخة التي حملت له فرحة العمر، لكنها أيضًا جلبت معه ثقل المسؤولية التي لم يكن مستعدًا لها.
كان ياسين عاطلًا عن العمل منذ شهور. طرق أبوابًا كثيرة بحثًا عن فرصة، لكن كل باب أوصد في وجهه. الآن، ومع قدوم ابنه، لم يعد الأمر مجرد معاناة رجل شاب بلا وظيفة، بل أصبح أبًا عليه أن يكون سندًا لزوجته وطفله. كان بحاجة إلى المال ليشتري الحاجيات الأساسية، ليعود إلى زوجته بكرامة، لا بيدين فارغتين.
خرج من المستشفى، يمشي بلا هدى في الشوارع، يفكر في الحل. طرق باب الأول، ثم الثاني، ثم الخامس، لكن الجميع كانوا بين متأسف ومتجاهل، كأن الدنيا قررت أن تغلق أبوابها في وجهه دفعة واحدة. في تلك اللحظة، لم يعد يفكر في شيء سوى طفله، تلك اليد الصغيرة التي أمسكت بإصبعه قبل قليل وكأنها تتوسل إليه ألا يخذلها.
ثم، كأنما قاده القدر إلى لحظة فارقة، وجد نفسه أمام رجل ينزل من سيارته الفاخرة، يحمل ظرفًا بنيًا بدا ممتلئًا بالنقود. لم يفكر كثيرًا. كان عقله مشوشًا، وعواطفه تسبق تفكيره. اندفع نحوه، خطف الظرف من يده وفرّ هاربًا. كان يركض كمن يهرب من نفسه، من خطيئته، من تلك اللحظة التي حوّلته من أب متلهف إلى مجرم هارب.
لكن العدالة أسرع من أقدام يائس. لم تمضِ سوى دقائق حتى كان رجال الأمن يطوّقونه. حارس موقف السيارات كان قد رأى كل شيء، دلّهم عليه بسهولة، ليجد ياسين نفسه محاصرًا، يحمل المال في يد، وفي اليد الأخرى مولوده الذي بالكاد فتح عينيه للحياة. كان يحمل طفله كأنما يحتمي به، كأنما يحاول أن يبرر لنفسه ما فعله.
في مخفر الشرطة، جلس على الكرسي البارد، يحتضن صغيره الذي لم يدرك بعد مصير والده. في تلك اللحظة، لم يكن خائفًا من السجن، لم يكن نادمًا على السرقة بقدر ما كان يشعر بوخزة عميقة في قلبه: أي بداية هذه التي أقدمها لطفلي؟
عندما وقف أمام القاضي، كان لا يزال يحمل في قلبه ثقل الذنب والمسؤولية. نظرات الحاضرين تباينت بين شفقة واستنكار. القاضي تحدث بصرامة، لكن صوته كان يحمل شيئًا من التفهم، كأنه يدرك أن هذا الرجل لم يكن لصًا محترفًا، بل أبًا ضاقت به السبل.
صدر الحكم سريعًا: السجن سنة واحدة. لم يكن الحكم ثقيلًا مقارنة بجرائم أخرى، لكن بالنسبة لياسين، كان ثقيلاً كجبل، لأنه يعني أنه سيغيب عن أولى خطوات طفله، عن أول كلماته، عن أول مرة سيناديه فيها “أبي”.
عندما اقتاده رجال الأمن إلى سيارة الترحيل، التفت ياسين إلى زوجته التي كانت تمسك بالطفل، عيناها غارقتان في الدموع. حاول أن يبتسم، لكنه لم يستطع. فقط همس لها:
“أخبريه أني كنت أحاول… فقط أحاول.”
ثم أغلق الباب خلفه، تاركًا وراءه حياة لم يكن مستعدًا لخسارتها، لكنه خسرها رغم ذلك.