جان كوم مطلوب للعدالة: بتهمة تعكير صفو البشرية برسائل صوتية واتسابية!

ضربة قلم
وها قد صار الواتساب أداة تعذيب يومية، مجانية ومدعومة من طرف “مخترع” اسمه جان كوم، الذي ربما لم يكن يعلم أن اختراعه سيغدو لعنة جماعية، تُفتتح بها أيامنا وتُختم بها ليالينا على وقع “آلووو فين وصلتييي؟” أو “أجي نقولك شنو وقع لبنت خالتها”. ما كان عليه أن يُبدع، بل أن يلتحق بدير رهبان ويُقيم بينهم صامتًا، فذاك أرحم للبشرية من هذه المصيبة التقنية التي أطلقها على العالم.
كل شيء أصبح عرضة للخرق والاقتحام: سكون المقاهي، هدأة القطارات، حرمة سيارات الأجرة، قاعات الانتظار، وحتى ركن الحمّام. أينما وليت وجهك، فصوت أحدهم يتسلل إلى أذنيك كدبور مزعج، لا فكاك منه، يحدثك عن أمور لا تهمك ولا ينبغي لها أن تهم أحدًا. والأدهى أن هذه الفئة المؤذية، ذكورًا وإناثًا، تتحدث وكأنها تخطب في جمهور ينتظر الإلهام، أو كأنها تصور بودكاست صوتي من الدرجة العاشرة، موجه خصيصًا لك أنت، أيها الغريب البريء الذي كنت تحاول فقط احتساء قهوتك أو إنهاء كتابك.
نحن لا نُطالب بإعدام الخدمة، بل فقط بإعادة تعريف استخداماتها ضمن نطاق العقل والحياء، وهما فضيلتان باتتا نادرتين. فهؤلاء “النجوم الصوتيون” يبدون في منتهى الثقة وهم يرمون بأسرارهم العائلية، غرامياتهم العرجاء، وحتى شجاراتهم العقيمة في الفضاء العام، وكأنهم في برنامج واقعي لا ينقصه إلا التصفيق.
ثم إن الواحد منهم، وهو يستعرض قريحته اللفظية عبر “المايكروفون” المجازي للواتساب، يتصور أنه يحظى بإعجاب المارة، بينما الحقيقة الوحيدة هي أنه يحصد ازدراءً جماعيًا صامتًا، يعبر عنه الآخرون بتنهيدة خفيفة، نظرة قاتلة، أو تمتمة من قبيل: “الله يسلط عليه الصمت الأبدي”.
كيف تحوّلت المجانية إلى نقمة؟ كيف صار تطبيق يُفترض أنه وسيلة للتواصل، أداة لتفتيت الهدوء وتقويض الخصوصية؟ إنها مأساة الحداثة حين تسقط في يد قوم لا يميزون بين “التواصل” و”الثرثرة الفارغة”، بين “المكالمة” و”التنغيص”.
ولعل أفضل ما يمكن أن نفعله الآن، بعد أن ضاعت الطمأنينة، هو أن نحلم بصوت جان كوم وهو يُستجوب في محكمة الضمير العالمي، أمام هيئة من الفلاسفة والمتأملين، بتهمة تسهيل الثرثرة المجانية في غير محلها. نُحاكمه، لا لابتكاره، بل لأنه لم يرفق التطبيق بزر لكتم الصوت العام أو لتنبيه المتحدث الأحمق بأنه بصدد اقتراف جريمة ضد الذوق العام.
لكن، كما في كل القصص الحزينة، لا عزاء للضحايا. نحن فقط نواصل العيش في عالم يُفترض أن يكون متقدمًا، لكنه ما يزال يرضخ أمام جبروت “فوكال” واتسابي بصوت جهوري، يوقظ حتى الموتى في قبورهم، ويجعلنا نحلم بعودة زمن الحمام الزاجل، فقد كان أرقى، وأقل ضجيجًا.