مجتمع

جحافل الأبطال الورقيين: كيف يصنع فيسبوك الزيف ويُسَوِّق التفاهة؟

ضربة قلم

تتجلى ظاهرة “الأبطال الفيسبوكيين” في صعود بعض النكرات فجأة إلى واجهة الاهتمام الجماهيري، مستندين إلى الصراخ والتضليل بدلًا من الوعي والمعرفة. لا رصيد لهم في الفكر، ولا أثر لهم في الواقع، لكنهم يملكون قدرة خارقة على دغدغة الغرائز الشعبية، وتوليد التفاعل من العدم.

هؤلاء لا يأتون من فضاءات الثقافة أو النضال أو التجربة الحقيقية، بل من رحم التفاهة الرقمية. يكفي أن يصوّر أحدهم نفسه “مظلومًا”، أو يكتب منشورًا غاضبًا مليئًا بالأخطاء اللغوية والانفعالات الفارغة، حتى تنهال عليه التعليقات والتضامن، ويُمنح فجأة صفة “المناضل”، “الصادق”، وربما حتى “الشهيد الحي”.

لغة مكسّرة وفكر أكثر تكسّرًا

تبدأ الكارثة باللغة. فمعظم هؤلاء يعانون فقرًا مدقعًا في أدوات التعبير، يكتبون كما يتحدثون، ويتحدثون كما يصرخون، بلا تراكيب واضحة أو أفكار متسلسلة. اللغة لديهم ليست وسيلة للفهم أو النقاش، بل أداة للتحريض العاطفي والتجييش الفارغ. إنهم يسحقون المعنى تحت وطأة الجهل، ويجعلون من الرداءة لهجة سائدة، مقبولة، بل ومحببة لدى جمهور لا يُكلّف نفسه عناء التمييز بين الكلام والكلام.

بطولة من ورق وأكتاف من هواء

يتقن هؤلاء استعراض العضلات الكرتونية: يهددون، يشتمون، يتوعدون، يتحدثون بلغة “الثورة”، ويدّعون أن العالم كله يتآمر عليهم. لكن في اللحظة التي يُطلب منهم فيها دليل، أو موقف حقيقي، أو حتى وضوح في الرؤية، ينهارون. بطولتهم لا تتجاوز حدود الشاشة. إنها بطولة بلا تكلفة، بلا مشروع، بلا تضحية.

حين يتّخذ البعض دور الضحية كوظيفة

من أكثر ما يثير السخرية أن البعض منهم جعل من “المظلومية” وظيفة دائمة. هو دومًا مستهدف، ملاحَق، مخنوق، مسحوب إلى السجون الافتراضية. هذا النوع من “المناضلين الافتراضيين” يجيد صناعة البطولة من العدم، ويحوّل كل حادث عابر إلى مؤامرة كونية. إنهم يصنعون من اللاشيء دراما، ومن السذاجة قضية، ومن التفاهة حركة “تحررية”.

منصات بلا معايير: من يصرخ أكثر، يُسمع أكثر

لا توجد آلية للفرز على فيسبوك. من يرفع صوته أكثر، يحظى بمتابعة أكبر، حتى وإن كان خطابه ملوثًا بالجهل أو الكراهية أو الابتذال. لا أحد يسأل: من هو هذا؟ ماذا قدم؟ ما مواقفه السابقة؟ بل المهم هو عدد اللايكات، وعدد المشاركات، وعدد المرات التي ظهر فيها “لايف” وهو يصرخ أو يبكي أو يهدد.

لا نعمم، لكن الغالبية تستحق اللوم

ليس القصد هنا التعميم. ثمة أصوات محترمة ونزيهة وشجاعة على هذه المنصات، لكنها في الغالب تُهمَّش وتُغرق في بحر الضجيج. أما أولئك “الأبطال” الذين صنعهم فيسبوك، فهم ظاهرة عابرة، كفقاعات الصابون: لامعة، سريعة الانتشار، وهشة إلى أقصى حد.

في النهاية، علينا أن نُدرك أن المجد الرقمي لا يعني بالضرورة قيمة حقيقية. وأن “البطولة” التي تُصنع من صراخ في لايف عشوائي لا تبني مجتمعًا، ولا تُصلح فسادًا، ولا تُسقِط ظلمًا.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.