جيل بدون دفتر عائلة: أبناء العلاقات غير الموثقة

ضربة قلم
في ردهات المستشفيات، في أزقة المدن الكبرى، وحتى في بعض القرى النائية، يولد أطفالٌ لا ذنب لهم سوى أن آباءهم وأمهاتهم لم يوثّقوا حبّهم في ورقة رسمية.
يولدون في صمت، خارج سجل الحالة المدنية، خارج “الدفتر العائلي”، وخارج كل ما يمنح الإنسان هوية واضحة في المجتمع. لكنهم لا يولدون خارج الإنسانية، ولا خارج الحلم. إنهم جيل يعيش بين خانتين: خانة القانون، وخانة المجتمع.
بين “الاعتراف” و“الإنكار”
القانون المغربي في مادته 148 من مدونة الأسرة واضح:
لا يُلحق النسب إلا من زواجٍ موثق.
أما الطفل المولود من علاقة غير موثقة، فلا يُنسب إلى أبيه، إلا في حالات نادرة كالإقرار أو الحكم القضائي بثبوت النسب عبر الخبرة الجينية.
لكن الواقع أقسى من النصوص. كم من أمٍ وُجهت إلى الباب وهي تحمل رضيعها لأن الأب رفض التوقيع أو أنكر العلاقة. وكم من طفل كبر دون أن يعرف من أي عائلة ينتمي، سوى أنه “ابن الأم”.
النتيجة؟
طفل بلا “دفتر عائلة”، بلا لقب، بلا هوية كاملة، في بلدٍ يُقدّس الأوراق أكثر من الأرواح.
المدرسة… أول امتحان في الهوية
حين يدخل هؤلاء الأطفال إلى المدرسة، تبدأ المأساة الإدارية.
المدير يسأل عن “اسم الأب”، عن “الدفتر العائلي”، عن “شهادة الازدياد”…
الأم تقف محرجة أمام الطابور، تبرر، تبكي أحيانًا، أو تبتكر قصة لتخفي الحقيقة.
يتعلم الطفل منذ السنوات الأولى أن عليه أن يُخفي جزءًا من حياته، أن يلفّ اسمه بالسكوت، أن يتجنّب السؤال. فتتشكل أولى بذور الوصم الاجتماعي في عُمر اللعب والبراءة.
بعض المدارس الخاصة ترفض تسجيل هؤلاء الأطفال أصلًا.
والبعض الآخر يقبلهم على مضض، لكنهم يُعاملون كحالات “استثنائية” تحتاج ترخيصًا من النيابة العامة أو من مؤسسات حماية الطفولة.
وهكذا، تبدأ “الهوية” كجدار أول قبل حتى أن يتعلم الطفل الحروف.
المجتمع… بين النفاق والإنكار
المجتمع لا يرحم. يتحدث عن “الستر”، لكنه لا يستر. يتحدث عن “الرحمة”، لكنه أول من يُقصي.
المرأة التي تُنجب خارج الزواج تتحول إلى رمز للخطيئة، بينما الرجل، في الغالب، يواصل حياته بهدوء. كأن المسؤولية تُكتب فقط باسم الأم.
أما الطفل، فيتحول إلى مرآة يعكس من خلالها المجتمع نفاقه الأخلاقي. يناديه البعض بـ”ولد الحرام”، وهو مصطلح أقبح من الجريمة نفسها. لكن هل وُلد أحدنا باختياره؟
من المثير أن تجد في كل حي قصة مشابهة:
أمّ شابة تربي طفلًا في السر، تقول للجيران إنه “ولد أختها”، أو طفل يعيش مع جدته لأنه “ما عندوش باه”. قصص منسيّة تُروى في الهمس، لكن صداها يعبر كل طبقة اجتماعية.
الدولة… بين الحماية الشكلية والصمت العملي
نعم، هناك قوانين وقرارات لمحاربة التمييز ضد الأطفال في وضعية هشّة، وهناك مؤسسات مثل “مراكز الرعاية الاجتماعية” و”جمعيات كفالة الأطفال المتخلى عنهم”.
لكنّ هذه المبادرات تظل محدودة، بل تُشبه المسكنات في مواجهة جرح مفتوح.
فالدولة التي تتحدث عن “التنمية البشرية” لم تحسم بعد في سؤال “الهوية الإنسانية”. هل يمكن أن تُبنى الكرامة دون اعتراف؟
هل يمكن أن نتحدث عن “المواطنة” ونحن نحرم آلاف الأطفال من أبسط حق: حق النسب؟
تتحدث التقارير عن أكثر من 50 ألف ولادة خارج الزواج سنويًا في المغرب،
وراءها قصص فقر، هجرة، اغتصاب، خداع، أو حب ساذج انتهى بخيانة.
لكن الإحصائيات الرسمية غالبًا ما تُغلف هذه الأرقام بعبارة باردة: “حالات استثنائية”.
الازدواجية القاتلة
الطفل الذي يولد خارج الزواج يعيش حياة مزدوجة:
– حياة قانونية ناقصة،
– وحياة اجتماعية متهمة.
قد يحمل اسمًا جديدًا بعد الكفالة، لكن ماضيه يظل مكتوبًا في العيون. قد ينجح في دراسته، وقد يصبح إطارًا أو فنانًا أو طبيبًا، لكن في داخله جرحٌ لا يُشفى: لماذا حُرمت من حقي في الانتماء؟
جيل لا يريد الشفقة… بل الاعتراف
هؤلاء الأطفال لا يطلبون صدقة، بل عدلًا.
لا يريدون عطفًا موسميًا من الجمعيات، بل قانونًا يحميهم من اللعنة الوراثية للعار.
يريدون أن يعيشوا كباقي الأطفال، أن يكون لهم أبٌ في الأوراق، واسمٌ في المجتمع، ومستقبلٌ لا يبدأ بالدموع.
من يجرؤ على فتح الملف؟
الموضوع ثقيل، نعم. لأنه يكشف هشاشتنا الأخلاقية، ويضعنا أمام سؤال الكرامة الحقيقية:
هل نؤمن بأن كل إنسان يستحق هوية؟
أم أننا ما زلنا نحاكم الأبناء بخطايا الآباء؟
ربما حان الوقت لنكفّ عن دفن الحقيقة تحت عبارات مثل “الستر” و“الحياء”.
فلا حياء في العدل، ولا كرامة في النسيان.
خاتمة: الوطن ليس دفتر عائلة
الوطن الذي يهمّشه القانون وينبذه المجتمع، هو وطن يخلق بنفسه جيلًا يشعر أنه غير معترف به. جيل بلا جذور واضحة، بلا اسم عائلي، بلا انتماء آمن.
ولذلك، فإن السؤال الأعمق في هذا الملف لا يطرحه القانون، بل تطرحه الإنسانية نفسها:
من نكون نحن أمام هؤلاء الصغار؟
أمةٌ تحتضن أبناءها… أم مجتمعٌ يدفعهم إلى الهامش؟




