مجتمع

جيل لا يهرب من الموج… بل من الغرق في البرّ

ضربة قلم

شبابنا المغربي، الذي ما عاد يجد موطئ حلمٍ في أرضه، صار يعيش داخل زنزانةٍ اسمها “الانتظار”.
زنزانة بلا قضبان، لكن بأسوارٍ من اللامبالاة، من صمت المسؤولين، ومن وجعٍ ينهش الروح كل صباح. حين يفتح الشاب عينيه على واقعٍ بلا عمل، بلا أفق، بلا كرامة، يشعر أنه سجين وطنٍ يتفنّن في تجفيف الأمل، ثم يلوم أبناءه على الجفاف.

ولأن الفقر أقسى من الرصاص، يفكر بعضهم في الهروب من هذه الزنزانة الكبرى عبر قاربٍ صغير، يترنّح بين الحياة والموت. قوارب الهجرة السرية، تلك التي لا تميز بين حلمٍ وحفرة، بين موجةٍ وسراب. راكبوها يُدركون أن الاحتمالات لا ترحم: إمّا أن يُولدوا من جديد على الضفة الأخرى، أو يُدفنوا في لجّة البحر بلا شاهد. ومع ذلك، يبحرون، لأنهم يؤمنون أن البحر -رغم غدره- أرحم من برٍّ تُسرق فيه الأحلام بالوثائق الرسمية.

كم هو موجع أن يكون الوطن في الجيب فقط، لا في القلب. أن يُستعمل اسم “المغاربة المقيمين بالخارج” لتلميع الخطب وجمع العملة الصعبة، بينما تُبدّد أموالهم في الخارج بيد من سرقها هنا. تُهرَّب الملايين عبر البنوك، لا القوارب، وتُغسل الوجوه في المؤتمرات، بينما الشباب يُغسلون بملح البحر.
مفارقة تجعل الدم يغلي: من يهرب بثرواته يُستقبل بالبساط الأحمر، ومن يهرب بحلمه يُغرقه الموج بلا رحمة.

لكن اليوم، لم يعد البحر وحده يبتلع أبناءنا.
فقد خرج جيل جديد – جيل زد المغربي – لا يفرّ من الموج، بل يواجهه. جيل لا يملك رصيدًا في البنك، لكنه يملك رصيدًا من الوعي والكرامة. خرج إلى الشوارع لا ليخرب، بل ليُذكّر بأن الوطن ليس فندقًا يُغادره حين تسوء الخدمة، بل بيتٌ يحتاج من يُعيد بناءه. خرجوا ليقولوا: لسنا ضد الدولة، بل ضد الجمود، ضد الفساد، ضد اللامساواة التي خنقت أحلامنا حتى داخل النوم.

إنه جيلٌ لا يطلب المستحيل، بل فقط أن يُعامل كمواطن، لا كرقم في طابور الانتظار.
يطالب بالصحة لأن جسده تعب، وبالتعليم لأن جهله لم يعد يُطعم خبزًا، وبالعمل لأن الكرامة لا تُستورد. جيل يؤمن أن التغيير لا يأتي من قوارب الموت، بل من أمواج الوعي. هؤلاء الشباب لا يحتاجون إلى وصاية، بل إلى ثقة. لا يحتاجون إلى قمع، بل إلى من يصغي إلى وجعهم. فالاحتجاج ليس تهديدًا للوطن، بل تذكيرٌ بأنه لا يزال حيًّا.
والبركة – كما تقول أمثالنا الشعبية – في الشباب، في هؤلاء الذين قرروا ألا يرحلوا، بل أن يُعيدوا للوطن وجهه الذي أحبّوه يومًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.